الموجة الآتية من الحركة الشعبية السورية... أحلام صغيرة وأخرى كبيرة!
أنتج المجتمع السوري خلال السنوات العشر الماضية أشكالاً شديدة التنوع مما يمكن تصنيفه تحت الإطار العام لمسمى «الحركة الشعبية»، ورغم ذلك فإنّ الشكل الوحيد الذي حاز «اعترافاً إعلامياً»، هو التظاهر...
لعل السبب وراء هذا «الاعتراف الإعلامي» أحادي الجانب، إنما يعود إلى تقاطع مصالح النخب الرافضة لأي شكلٍ من التغيير، مع مصالح النخب التي تسعى وراء تغيير شكلي للطرابيش مع بقاء الأنظمة على حالها القمعي والناهب؛ لأنّ اختزال الحركة الشعبية بالتظاهر، ومع الانكفاء المؤقت لهذا الشكل، يسمح بالقول إنّ الحركة ماتت وانتهت، ويسمح على المقلب الآخر بالقول إنّ «التسلح» والتمثيلات السياسية المفروضة من الخارج قد حلّت محل التظاهر وحملت رسالته وانتهى الأمر... وكأنّ المهمة قد أنجزت حين توهّم البعض بأنه حاز اعترافاً ما، وعبر مجموعة من الدول، بتمثيل الشعب السوري، وبات على الشعب السوري أن «ينضبّ» في بيوته، أو في خيمه وملاجئه، ويترك للسادة الممثلين مهمة امتطاء حركته للوصول إلى أهدافهم هم في نهاية المطاف...
المعنى الواسع للحركة الشعبية
الحركة الشعبية بمعناها الواسع، هي انخراطٌ متزامنٌ لأعداد كبيرة من الناس ضمن مجتمع معين، في النشاط السياسي. وهذا المعنى الواسعُ، والذي قد يبدو فضفاضاً حتى، يتضمن معاني عديدة، تنطبق على الحالة السورية وعلى غيرها من الحالات. وهذه المعاني، وربما المحددات، تعمل بشكلٍ تآزري؛ أي إنّ تفسيراً جاداً لظهور الحركة الشعبية بعد غيابها، لانخراط الناس في العمل السياسي بعد انقطاعهم وابتعادهم عنه، لا يمكن أن يقوم على عاملٍ واحدٍ بوصفه السبب الوحيد.
بين أهم هذه المعاني/ المحددات/ الأسباب:
أولاً: تحديد الحركة الشعبية، كانخراط واسعٍ للناس، في لحظة معينة، في النشاط السياسي، يعني أنّ الناس قبل هذه اللحظة لم يكونوا منخرطين في النشاط السياسي؛ أي إنهم كانوا بعيدين ليس عن الفعل السياسي بصورته العامة فقط، بل وضمناً عن أشكاله المتنوعة، الحزبية والنقابية والمدنية وإلخ. ولكن بالدرجة الأولى عن الشكل الحزبي للعمل السياسي.
ثانياً: ظهور الحركة الشعبية، وغيابها قبل ذلك، يفترض حالة عامة من تخلف الأحزاب السياسية القائمة، والعملية السياسية القائمة، وعلى العموم الفضاء السياسي القائم؛ تخلّفه عن التطور الجاري في المجتمع. أي إنّ البنى التي يُفترض بها أن تمثل الناس وهمومها وتتفاعل معها وتجمعها وتحشدها نحو تحقيق أهدافها، حين لا تتمكن من القيام بذلك، سواء لأسباب ذاتية أو موضوعية أو لمزيج من هذا وذاك، فإنها تفقد وظيفتها الفعلية، ويحدث ما يحدث عادة مع انطلاق الحركات الشعبية، أي إننا نرى الناس في الشارع ونرى قوى سياسية تحاول الالتحاق بها. وباختصار، فإنّ انطلاق الحركة الشعبية يفترض ضمناً أن الناس قد أعلنوا عبر الفعل، عبر التحرك، عن طلاقٍ قديمٍ جرى بينهم وبين البنية السياسية القائمة، ولكنهم لم يروا ضرورة إعلان ذلك فيما مضى، ربما لأنّ مستوى الرضا الاجتماعي في حينه (والذي سنتحدث عنه تالياً)، لم يكن قد تدنى إلى ما دون العتبة الحرجة...
ثالثاً: المستوى المتدني للحريات السياسية. وهذا لا يقف فقط عند حدود القمع السياسي الأمني والفكري والقومي وإلخ، بل يمتد ضمناً إلى تخلف البنية القانونية-السياسية، بما في ذلك عدم وجود قانون أحزاب لفترة طويلة، وكذلك نوعية قانون الانتخابات، ونوعية العلاقة بين المركز والأطراف، وطرق إدارة البلاد بمناحيها المختلفة، وبصورة أوسع: الهيكل الدستوري-القانوني السائد، والممارسات العملية للسلطات، سواء المشتقة من ذلك الهيكل أو الملتفة عليه.
رابعاً: القوانين الداخلية الموضوعية لعملية التناوب التاريخي الدوري بين مراحل نهوض وحراك اجتماعي واسع، ومراحل ركود وربما سبات جماهيري. وهي قوانين لا تزال حديثة الاكتشاف، وليست شديدة الرسوخ والقوة بالمعنى المنهجي تالياً. ولكن باختصار، فهي قوانين تقرن حركة الناس باتجاه السياسية بدرجة الرضا الاجتماعي العام عن النظام السياسي القائم، والتي حين تتدنى إلى ما دون عتبة معينة فإنّ الناس تجد نفسها منخرطة في حراك واسع دون أن تخطط لذلك.
ومسألة الرضا الاجتماعي نفسها هي مسألة شديدة التعقيد... الأكثر بروزاً ووضوحاً، وربما تأثيراً ضمنها، هو الرضا الاقتصادي؛ أي مدى رضا الناس عن أوضاعهم المعيشية، والذي لا ينبغي اختصاره بأرقام مطلقة عن مستوى المعيشة ومؤشرات التنمية وإلى ما هنالك (على أهمية هذه المؤشرات)؛ فما هو أكثر أهمية ضمن هذا السياق هو الأرقام في حركتها... وبعبارة أخرى، لا يمكننا أن نقارن رضا شعبٍ من الشعوب عن النظام والسلطات القائمة في بلده، برضا شعب آخر عن نظامه وسلطته، بمجرد المقارنة بين مستوى المعيشة في سنة من السنوات بين البلدين. الأكثر أهمية ضمن هذا السياق هو حركة مستوى معيشة شعب من الشعوب عبر عدة سنوات متتالية، وتوقعات هذا الشعب لحركة هذا المستوى خلال السنوات اللاحقة. المثال الواضح على ذلك هو المقارنة بين رضا الشعب الصيني عن نظامه وسلطته وبين رضا الشعوب الغربية عن سلطاتها وأنظمتها؛ فوفقاً لدراسات غربية عديدة (منها دراسة شهيرة لجامعة هارفارد عام 2020)، فإنّ معدل رضا الصينيين هو بين الأعلى عالمياً، وهو أعلى من معظم الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا... وذلك بالرغم من أنّ مستوى المعيشة في الصين في أية لحظة خلال السنوات العشر الماضية ما زال أقل بمراحل من مستوى المعيشة في هذه الدول. السرّ في المسألة هو أنّ مستوى معيشة المواطن الصيني خلال هذه السنوات العشر هو في كل سنة منها أفضل من التي قبلها، بالمقابل فإنّ مستوى معيشة المواطن الأمريكي، البريطاني، الفرنسي إلخ في كل سنة هو يساوي أو أقل من مستوى معيشته في السنة التي قبلها... وبناءً على ذلك، فإنّ المواطن الصيني ينظر إلى مستقبله الشخصي ومستقبل بلده بعين التفاؤل وتالياً بعين الرضا، أي إنّه قادر على بناء أحلام حتى لو كانت صغيرة، وأن يثق بإمكانية تحقيقها... على العكس من ذلك، ففي الدول التي تعيش حالة تراجع طويل الأمد، حتى ولو كان بمعدلات بطيئة، فإنّ الناس تصبح لديهم ثقة من نوع معاكس؛ ثقة بأن المستقبل أكثر سوءاً من الحاضر، أو على الأقل فالمستقبل أقل جودة من الحاضر، وهذا كافٍ لخفض معدلات الرضا الاجتماعي، وتنشيط احتمالات انفجار الحركة الشعبية متى وصل معدل الرضا إلى عتبته الحرجة... وهذه العتبة الحرجة نفسها ليست واحدة في كل الدول ولدى كل الشعوب، فهي أيضاً تخضع لخصوصيات عديدة...
خامساً: للحراكات الشعبية أيضاً دوافعها الثقافية والفكرية والذهنية، وهذه الدوافع نفسها تحمل ضمنياً جذوراً اقتصادية واجتماعية عميقة، وعميقة إلى ذلك الحد الذي يتطلب عمليات حفر وتنقيب للوصول إليها. كمثال على ذلك، فإنّ اللبرلة الاقتصادية المتوحشة التي تسارعت بين 2005 و2010، لم تسئ لأوضاع الناس الاقتصادية فحسب، بل وحملت معها آثارها النفسية والاجتماعية، بل ومنظومتها «الأخلاقية» الجديدة؛ فالفلاحون الذين اضطروا لهجر أراضيهم في الجزيرة السورية تحت وقع رفع سعر المحروقات بشكل أساسي إضافة إلى أسباب أخرى، وجدوا أنفسهم فجأة عمال مياومة ينتظرون من يطلب عملهم العضلي تحت جسور حلب ودمشق بكل ما يحمله هذا الانتقال الصاعق من آثار على معيشتهم وعوائلهم وتقاليدهم وذهنيتهم وطريقة تفكيرهم... كذلك الأمر مع عمال الورش التي أقفلها الاستيراد من تركيا، والتي تحول عمالها وأصحابها من أعضاء نافعين في المجتمع يعرفون دورهم ويعرّفون به، إلى أشخاص مهمّشين يبحثون ليس عن عمل جديد فحسب (ولا يجدونه في كثير من الأحيان)، بل وعن هوية ذاتية جديدة، وعن موقع جديد ضمن المجتمع... وهذان المثالان ليسا إلا نقطة في بحرٍ لا يزال غير مدروس بشكل كافٍ، وربما تكون محاولات دراسته واكتشاف معالمه بين المهمات الأساسية التي ينبغي التصدي لها، وهي من أصعب وأعقد المهمات في الوقت نفسه.
أسباب الموجة الآتية
الجوانب الخمسة التي عددناها آنفاً للحركة الشعبية التي انطلقت عام 2011، ليست كل جوانب الظاهرة بالتأكيد، ولكنها جوانب مهمة منها. ويكفي أنْ نعيد قراءتها بعد عشرة أعوام مرة أخرى، لنجيب عن السؤال: هل هنالك موجة جديدة آتية من الحركة الشعبية في سورية؟ وربما سؤال متى ستأتي هو سؤال أكثر تعقيداً وصعوبة، ولكن قراءة الجوانب الخمسة المذكورة مرة أخرى، يسمح بإعطاء تصورٍ عامٍ عن الإجابة...
أولاً: انخرط الناس خلال السنوات العشر الماضية ضمن النشاط السياسي بصوره المختلفة، وبدرجات متفاوتة. ومع انخراطها وجدت أمامها تمثيلات سياسية جاهزة، بينها القديم وبينها «الجديد الوهمي» وبينها قلة قليلة جديدة بحق. استطاعت هذه التمثيلات وهذه الاصطفافات أن تختطف لهفة الناس وحراكها في المراحل الأولى، ونقصد هنا ما يسمى «موالين» و«معارضين» و«رماديين»، على حدٍ سواء. ورغم أنّ هذه الاصطفافات قد دفّعت الناس ثمناً باهظاً جداً، إلا أن الناس تعلّمت عبرها أنّ الاصطفاف المطلوب هو اصطفاف من نوع آخر أكثر جذرية وأكثر وضوحاً. وحالة الرفض التي نراها اليوم من معظم الناس لكل التمثيلات السياسية القائمة، لا تعبر عن سباتٍ جديدٍ للحركة الشعبية لـ90% من السوريين، كما يتوهم أو يتمنى البعض، بل تعبّر بالضبط عن أنّ هذه الحركة، العابرة لاصطفافات التأييد والمعارضة والرمادية، والعابرة للاصطفافات القومية والدينية والطائفية والعشائرية، تبحث مجدداً عن تمثيل سياسي حقيقي لها، بل وتبحث بجدية أعلى من السابق، وبعقل أكثر انفتاحاً وأكثر خبرة...
ثانياً: في السياق نفسه، فإنه إذا كانت حالة تخلف البنى والأحزاب السياسية واضحة في 2011، فهي اليوم أكثر وضوحاً بعد أنْ بان بالنسبة للناس، ليس فقط تخلف السواد الأعظم من الحركة السياسية القديمة، بل ووهمية جدة القسم الأعظم من الحركة السياسية «الجديدة»، بتشكيلاتها المتنوعة: الموالية ونصف الموالية ونصف المعارضة والمعارضة... بل وأيضاً باتت واضحة بالنسبة للسواد الأعظم من الناس، الأدوار التي تؤديها «المنظمات غير الحكومية» السورية وغير السورية، وحدود تلك الأدوار، السلبي منها والإيجابي...
ثالثاً: قلنا إنّ مستوى الحريات السياسية ما قبل 2011 كان منخفضاً، ونقصد أنه كان منخفضاً ليس بالمطلق فقط، بل وبالنسبة لجملة مقارنة محددة؛ أي هو منخفض تحت مستوى محدد مطلوب يتناسب مع احتياجات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودرجة وطبيعة تطور قواه المنتجة... والآن، في 2021، فإنّ مستوى الحريات السياسية (رغم أنّ صوت الناس بات أكثر ارتفاعاً في انتقاد النظام والمعارضة على حد سواء)، هو أشد انخفاضاً بالمعنى النسبي مما كان عليه في 2011؛ لأنّ احتياجات التغيير باتت أكبر بكثير، باتت ترتبط لا بتحسين أوضاع الناس، بل ببقائها... لأنّ حالة الانهيار الشامل التي تسير البلاد نحوها هي تهديد وجودي أشدّ خطراً بمراحل مما كانت عليه الأمور في 2011.
رابعاً: عطفاً على ذلك، فإنّ عتبة الرضا الاجتماعي باتت أكثر تدنياً من أية مرحلة سابقة في التاريخ السوري الحديث؛ وكما طرحنا مثال الصين والغرب وتفكير الصيني والغربي في مستقبله، والآمال والأحلام والثقة، فإنّ السوري بات يثق ثقة مطلقة بأنّ بقاء الوضع على حاله هو ضمان أكيد لحقيقة كارثية واحدة: كل يوم جديد ضمن الوضع الحالي سيكون أسوأ من سابقه، وليس من أحلام يمكن تحقيقها، وليس من أمل في أي تحسن في حال بقاء الوضع على حاله... أي إنّ المقياس لم يعد ينفع معه القول بانخفاض الرضا الاجتماعي دون مستوى محدد، بل تجاوزنا هذه العتبة منذ زمنٍ وباتت المسألة تتعلق بارتفاع مستوى عدم الرضا إلى عتبات انفجارية غير مسبوقة...
خامساً: إذا كانت الليبرالية الجديدة قد حملت معها آفاتها الأخلاقية والنفسية والاجتماعية، فما الذي يمكن أن يقوله المرء عن استمرار الليبرالية الجديدة وتعمقها والآفات الإضافية التي خلقتها بالتآزر مع نتائج الأزمة المديدة؟ هل نتحدث عن الفقر المطلق والبطالة والمخدرات بأشكالها، وعن الخطف والتعفيش والاعتقالات والدعارة وتشتت العائلات بين الدول والانحدار الفني والفكري والثقافي المرعب... وغيرها وغيرها؟
الموجة الجديدة قادمة، ولن تتأخر كثيراً!
النقاش السابق بأكمله يدور حول مسألة جوهرية واحدة، هي أنّ موجبات انطلاق الحركة الشعبية بطورها الأول، لم تزُل، بل وباتت أشد عمقاً وإلحاحاً مما كانت عليه، وقد وصل 90% من السوريين إلى حافة حالة يشعرون معها أنه لم يعد لديهم شيء ليخسروه سوى القيود والذل والقهر الذي يعيشونه على أساس يومي.
يدور النقاش أيضاً حول موضوعة ثانية؛ فالموجة القادمة لن يكون دافعها أو معيقها، مختصراً باليأس –كما يفترض البعض-؛ فاليأس وحده لا يمكنه بحالٍ من الأحوال أن يخلق محركات تغيير... الموجة الجديدة ستكون مدفوعة بقدر من اليأس أكبر من ذلك الذي كان قائماً عام 2011، وفي الوقت نفسه بقدرٍ أكبر من الأمل بما هو آتٍ... وبكلمة: الموجة الجديدة ستكون أكثر جذرية من التي مضت، حتى وإن لم تصل بجذورها نحو العمق المطلوب، فإنها ستؤسس لموجة لاحقة أكثر جذرية... ولن تستكين الحركة وتعود إلى سباتها قبل أن تحقق مهمتها التاريخية...
بالقياس على الأدوار السابقة من الحركات الشعبية على المستوى العالمي خلال أكثر من قرنين، فإنّه ما يزال أمام الحركة الشعبية عقدان أو أكثر قبل أن تعود إلى حالة «السبات»؛ وهذا الوقت المتبقي لن تقضيه فقط في إزالة القديم فقط، كما يحاول أولئك الذين امتطوا الموجة الأولى أن يصوروا الأمر، بل وستقضي القسم الأكبر منه في مهمة أشد صعوبة وتعقيداً هي بناء الجديد... ورغم صعوبة هذ المهمة، إلا أنّ ما سيسهلها هو أنها ستأتي محضونةً بحالة أمل جماعي وأحلام صغيرة وكبيرة قابلة للتحقق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1034