«دولة سايكس– بيكو» إلى أين؟
لماذا التأكيد والإصرار على القضية الوطنية، ووحدة سورية، طالما أن الوطن نفسه هو من نتاج خرائط سايكس بيكو؟ يتكرر طرح هذا السؤال منذ سنوات، وهو في الحقيقة جواب أكثر مما هو سؤال، وبالأحرى هو جواب مضمر، يقصد سائله القول: إنه لا مانع من تفكيك وإعادة تركيب الخرائط من جديد، ويتردد هذا «السؤال– الجواب» الملتبس منذ سنوات على لسان جهات عديدة، نميز هنا ثلاثة نماذج منها. وعلى الرغم من أن لكل نموذج أهدافه الخاصة، ودوافعه المختلفة، ونواياه المتعارضة أحياناً، إلا أن النتيجة في كل الحالات واحدة، وهي إلغاء 100 سنة من التاريخ:
النموذج الأوّل
يصنف ضمن الحالة الشعبوية التي ظهرت في سياق رد الفعل على سلوك أنظمة الفساد والقمع المتتابعة، التي حوّلت الدولة إلى حطام، وازداد صداه في هوامش الخواء الروحي الذي ساد في ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك، ومن ثم الواقع البائس في سنوات الأزمة. وهو تعبير عن الإحباط المستوطن لدى شرائح اجتماعية قلقة بطبيعتها، وهي حالة يتكرر ظهورها ويزداد في ظل الأزمات. وبالتالي فإن زوال المقدمات (انتهاء الأزمة) كفيل باختفاء هذا الجانب الشعبوي من الظاهرة.
النموذج الثاني
يعبر عنه بعض المثقفين القوميين الكرد، استناداً إلى أن اتفاقية سايكس بيكو، كانت غدراً بالشعب الكردي، وأن هذا الخطأ التاريخي يجب أن يصحح. وهو رأي مشروع بالمعنى الحقوقي في إطاره العام، لأن الشعب الكردي هو الشعب الوحيد في دول المنطقة الذي حرم من تشكيل دولته القومية، إلا أن هذا الطرح بالمعنى السياسي والواقعي، وإنْ كان يبدو حلاً لمشكلة، إلا أنه يعيد إنتاج المشكلة ذاتها بصيغة جديدة، خصوصاً في ظل توازن القوى الإقليمي السائد.
وجود هذا النموذج مرتبط بمستوى التعقيد العالي في القضية الكردية، وأيّ حل حقيقي وواقعي وعصري ينهي سياسة الإقصاء وإنكار الوجود بحق الكرد، سيعيد هذا النموذج إلى أضعف حالاته، إن لم يلغه.
النموذج الثالث
وهو النموذج- المؤسِس والمنظِّر– الذي يطرح هذه المقاربة الإشكالية، قاصداً متقصداً، ويعي ما يقول تماماً. وتعبر عنه فرقة من الانتلجنسيا العدميّة؛ فلا أوطان، ولا ثقافة، ولا انتماء، سوى الحساب البنكي، أو عطايا مراكز الأبحاث. وهي فئة مستعدة لقولبة الإنتاج المعرفي- الثقافي بما يسهّل تسويقه في بازار إعادة إنتاج الوعي الجمعي، بما يتوافق مع مشروع (الفوضى).
يكوّن هذا النموذج مجاله الحيوي في فضاءات النموذجين الأول والثاني، ويغذيهما، ويستقوي بهما، مستثمراً في سلوك كل قوى الفضاء السياسي القديم في النظام والمعارضة، خصوصاً في ظل المأزق الوجودي الراهن، حيث بات المواطن يبحث عن حل ما، أيّ حل كان، يوقف طاحونة الدم، والجوع، والقهر.
خطاب هذا النموذج، خطاب تحريفي بامتياز؛ إذ يوظف المفاهيم الحداثية لتسويق ما يعاكسها بالمعنى التاريخي، فكل فصاحة وقدرات وإمكانات ومرونة الخطاب الليبرالي، وكل مخرجاته عبر التاريخ، تستخدم لتبرير وتسويق قوى الفوات الحضاري: التأسلم- الشوفينية- الانعزال، بذريعة الواقعية، في ظاهرة يصعب تفكيكها، وتفسيرها إلا عندما ننظر إليها على ضوء التجربة العيانية، ومخرجاتها التي تؤدي إلى تشظّي البنى الاجتماعية طائفياً وقومياً ودينياً وقبلياً، وهو في هذه الحالة، ليس نفياً لسايكس بيكو، بل استكمالاً لها، أو هو سايكس بيكو في نسختها النهائية التي لم تنفّذ في حينه بحكم توازن القوى آنذاك.
نورد في هذا السياق عيّنة من هذا الخطاب الذي بات يتكرر في الآونة الأخيرة: «... هذا الموديل الجديد من الدولة المستنسخ من التجربة الأوروبية وخاصةً الفرنسية، تم فرضه على جميع المكونات والتكتلات الاجتماعية والقومية والدينية، وبعيداً عن رغبات ومصالح أهلها. تشكّلت، وبشكل مشوه، ما تسمى بالدولة السورية من جسم ليس فقط غير مؤهل، بل يفتقر إلى الحد الأدنى من مفاهيم التضامن الوطني التي تعتبر الركيزة الأساسية في بناء الدولة الوطنية...».
هذه الرؤية تعود في جذورها إلى ما يمكن أن نسميه بالفكر الاستشراقي، الذي لم يرَ في هذه المنطقة إلا جماعات وأقوام بدائية لا يجمعها جامع. وهي الأفكار التي كانت مقدمات الانتداب والوصاية عليها، ويتم اليوم تعريبها أو تكريدها على لسان مثقفين عرب وكرد، في إطار هذه القراءات البائسة، بذريعة تجاوز المأزق الراهن.
الخرائط على حقيقتها؟
أولاً: سايكس بيكو هي عملية تقاسم نفوذ، وخرائط رسمت على الورق في مكاتب الهندسة السياسية الغربية، سرعان ما اصطدمت بألف عائق وعائق على الأرض، ولم تبق أية حدود نصت عليها هذه الاتفاقية كما هي، بل تغيرت لأكثر من مرة، حسب توازن القوى الدولي والمحلي في حينه؛ فلا سورية الحالية هي سورية سايكس بيكو، ولا لبنان، ولا فلسطين، ولا العراق، ولا تركيا. وعدا عن ذلك فإن القوى الموقعة على الاتفاقية نفسها تغيّرت، بعد انسحاب روسيا منها على إثر نجاح ثورة أكتوبر، وبالمناسبة هي من فضحت هذه الاتفاقية.
ثانياً: تقاسم النفوذ بين الدولتين المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى، كان المرحلة الأولى من المشروع. وكان منطق التقاسم السائد يعني في المرحلة الثانية تقسيم كل منطقة نفوذ على حدة؛ فالمناطق الخاضعة للنفوذ الفرنسي في سورية الحالية مثلاً: كانت أربع دول أو ستاً في بعض الأحيان، وفق المنطق الذي عبر عنه تشرشل علناً فيما بعد (حيث يوجد بئر نفط سأبني دولة). وهذا بدوره لم ينفّذ، على إثر رفض السوريين لذلك، أي إن القول بأن مناطق سورية الحالية ألصقت قسراً مع بعضها (دون إرادة السوريين)، ليكون الاستنتاج على ضوء ذلك بأن سورية كيان مصطنع فرنسياً، واستعمارياً، وبالتالي لا بأس من تفكيكه، هو قول يجانب الحقيقة جملة وتفصيلاً. وأية عملية تفكيك، وتحت أي مسمى، هي بالضبط استكمال لسايكس بيكو في نسخته الأصلية، وليس العكس. وعليه فإن تذاكي البعض، والقول بأنه مناقض لسايكس بيكو كمشروع استعماري، هو كلام باهت لا لون ولا رائحة ولا طعم له.
ثالثاً: من غير المنطقي والعقلاني أن نقول، لا يمكن التعايش، أو لا توجد مشتركات بين السوريين عام 2021، وهم الذين التفوا حول زعامات وطنية منذ ثلاثينات القرن الماضي، انطلاقاً من مشتركاتهم ورفضوا المرحلة الثانية من سايكس بيكو، بإنشاء عدة دويلات. أما الانقسام الذي حدث في حينه بين السوريين، فلم يكن انقساماً دينياً أو قومياً أو قبلياً، بل كان انقساماً سياسياً بين مشروعين أحدهما يرفض التبعية، وتيار آخر توزع بين التبعية لنزعة العثمنة، والفرنسة. إنّ كل محاولة لتغييب بواكير الوعي الوطني السوري في تلك المرحلة، التي تجسدت بيوسف العظمة، ورجالات الثورة السورية الكبرى، وعشرات الهبات والانتفاضات ضد المستعمر من حوران إلى بياندور ما هي إلا محاولة لإضفاء الشرعية على إعادة إنتاج الرؤية الاستشراقية الاستعمارية في ظل الأزمة التي كوّنت المناخ المناسب لإعادة إحيائها، وإلغاء 100 عام من التاريخ الحديث.
رابعاً: لم يستشر أحد السوريين بتقرير مصيرهم اليوم، حتى يسمح أحد لنفسه بالحديث باسمهم، وخصوصاً ذلك النموذج من المثقف المأزوم، الذي لا يكتفي بمقاربات بائسة لحل الأزمة الراهنة، بل يحاول قولبة التاريخ أيضاً، بما ينسجم مع أطروحاته.
وربما الأخطر من ذلك هو ما يراه هذا الخطاب من حلول للأزمة السورية: «للخروج من هذه الحالة المأساوية هناك طريقان لا ثالث لهما، وهما، إما الإتيان وبموافقة اللاعبين الأساسيين بديكتاتور يبدأ بقطع الرؤوس وتوحيد سورية بقوة السلاح والعودة بسورية إلى نقطة البداية لفترة لا تدوم كثيراً لأن التجربة أثبتت بأنه لا يمكن للديكتاتور مهما كبر جبروته أن يبني الأوطان، أو الاعتراف بسلطات الأمر الواقع واعتبارها كونفدراليات قائمة بدايةً، ومن ثم الانتقال بتلك الهياكل وبعد خلق الثقة بينها إلى الخطوة التالية وهي بناء دولة المواطنة التي تحتضن جميع مواطنيها كأفراد أو تجمعات إثنية أو مذهبية».
يتمظهر هذا الخطاب بأنه خطاب حداثي، ونقيض لحالة السكون التي لجمت التطور التاريخي، وقادت إلى المأزق الراهن، لنتفاجأ بأن أطروحاته تؤدي بنا إلى ما قبل مرحلة السكون نفسها، وتعيد إنتاج المأساة على شكل مهزلة.
تحت ستار تجاوز المأزق الراهن، يتم التشكيك بمشروعية الدولة، والتشكيك بمشروعية الدولة بهذه الطريقة، يشرعن موضوعياً بنى ما قبل الدولة، الطائفة- القومية– القبيلة، أي إن حوامل هذا المشروع «الإنقاذي– الحداثي» المزعوم، الذي يظهر تحت ستار اللحاق بركب المعاصرة في (عصر الذكاء الصناعي)، هي القبيلة والطائفة والانعزال القومي..!
ما البديل؟
البديل الراهن في سورية ليس استجلاب ديكتاتورية تقطع الرؤوس فلقد شبع السوريين من ذلك، ولا في تثبيت الأمر الواقع، فقد رأى السوريون نتيجة ذلك، بل في حل سياسي يعيد الاعتبار إلى الشعب السوري، ليقرر مصيره بنفسه دون وصاية أو انتداب أو أستذة، لا من مستعمر، ولا سلطة فاسدة، ولا مراكز أبحاث.
إن (تصحيحاً حقيقياً) لمسار سايكس - بيكو، يفترض أولاً وقبل كل شيء، أن يتجاوز منطق سايكس بيكو، أي التفتيت، ووظيفته، أي فرّق تسد. ومناطق النفوذ الثلاث، هي من صناعة نخب السلاح والفساد والاستبداد، وهي نتاج كل عوامل الأزمة الداخلية والإقليمية والخارجية، ولا تعكس بأية حال من الأحوال الموقف الشعبي السوري، الذي تجاوز وعي هؤلاء، لا بل تجاوز تثاقف كل جهابذة مراكز الأبحاث أيضاً. وإذا كان هناك شيء لا بد من تجاوزه، فهو تلك الجينات التي زرعتها اتفاقية سايكس بيكو في رحم الخرائط، ولم يسمح توازن القوى في حينه بنسفها من جذورها، حتى كانت سبباً في التشوه الولادي الذي اتسمت به الدولة الوطنية. وبناء عليه، فإن أي تغيير في الخرائط على أنقاض سايكس بيكو، ينبغي أن يكون باتجاه وحدة نضال شعوب الشرق والاندماج الطوعي بين كل البنى الثقافية والقومية من أبناء المكان، على أساس اعتراف الكل بالكل، وتكامل هذه الثقافات، بحيث تعالج القضايا المعلقة في التاريخ، مثل القضية الكردية من جهة، وفي الوقت نفسه تتجاوز المأزق الذي أسسه نموذج الدولة التابعة بعد الاستقلال. أما شرعنة تقسيم الأمر الواقع، أو محاولات ترسيم خرائط جديدة، بداعي أن الخرائط القديمة هي خرائط سايكس بيكو، فهي إعادة إنتاج لسايكس بيكو في نسخته الأصلية التي لم تستكمل، وبالتالي هي إعادة إنتاج دوامة أزمات جديدة.
كلمة حول القضية الكردية
تحاول بعض النخب مؤخراً ومن منابر مراكز الأبحاث، الاتكاء على مشروعية نضال الكرد السوريين ضد سياسات التمييز القومي وإنكار الوجود، وإيجاد حل عادل للمسألة الكردية في إطار الحل السياسي المنشود، لتسويق مشاريع التفكيك القديمة– الجديدة، مرة بقبول تثبيت تقسيم الأمر الواقع الموجود، ومرة بفرض شروط مسبقة على شكل الدولة السورية اللاحق (الكونفدرالية) وذلك لإسباغ شيء من المشروعية على مشاريعهم، ومدها بالزخم، وليس حل المسألة الكردية. إنّ دفع الكرد السوريين إلى واجهة هذه المشاريع، ما هو إلا سعي إلى مزيد من التعقيد وخلط الأوراق، وليس حلها، وتحميلهم أية مسؤولية لاحقة، استكمالاً وتناغماً مع تلك النزعة الشوفينية اتجاه الكرد التي عبرت عنها العديد من نخب النظام والمعارضة على مدى عقود...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1034