افتتاحية قاسيون 1019: المكابرة الأمريكية بين الخطاب والسلوك..
اتّسم الخطاب الأمريكي خلال الأشهر الأربعة التي مرت حتى الآن من عمر الإدارة الجديدة، بأنّه خطاب تصعيدي في معظم الشؤون الكبرى في الإطار الدولي، خاصة تلك المتعلقة بالصراع مع روسيا والصين، سواء عبر الناتو أو عبر ملفات أوروبا العديدة، بما في ذلك أوكرانيا وملفات خطوط الغاز وغيرها، وهذا الخطاب هو من حيث الجوهر استمرار للخطاب الأمريكي في فترة ترامب، وإنْ اختلفت بعض التفاصيل.
بالمقابل، فإنّ السلوك الفعلي، ابتداءً من طبيعة العلاقة مع المنظمات الدولية المختلفة، مروراً بالوجود العسكري في أفغانستان والعراق، ومروراً بالملف النووي الإيراني، ووصولاً إلى الكيان الصهيوني، وغيرها من القضايا، هو سلوك لا يمكن توصيفه بأقل من أنه سلوك دفاعٍ نشط، إنْ لم نقل سلوكُ انكفاءٍ واضح.
هذا كلّه، لا يمكنه أن يخفي حقيقة التناقض بين خطاب هجومي (في العلاقة مع روسيا والصين)، وسلوكٍ دفاعي أو حتى انكفائي، وهو الأمر الذي يحتاج إلى فهم تفسيراته ودلالاته الحقيقية، لما لها من تأثير على العالم بأسره، وعلى سورية ضمناً:
أولاً: إنّ حقيقة التراجع الغربي عموماً، والأمريكي ضمناً، بالمعنى الاقتصادي من حيث الأساس، هي حقيقة لا يمكن لأي خطاب أو سلوك أن يغيّبها؛ بين الدلائل العديدة على ذلك، تراجع إسهام «السبعة الكبار» في الناتج المحلي العالمي من 65% عام 2000 إلى أقل من 45% عام 2020. ومن المعلوم أنّ الأوزان السياسية والعسكرية هي في نهاية المطاف، تعبير مكثف عن الأوزان الاقتصادية، ولذا فإنّ إعادة صياغة العلاقات الدولية ككل، بناءً على الأوزان المستجدة بالمعنى الاقتصادي، هي أمر لا مفر منه. وبهذا المعنى، فإنّ المقصود من تشديد الخطاب الحربجي، هو تغطية التراجع بقنابل دخان كثيفة، ليس لتضليل الأعداء، بل بالدرجة الأولى لتضليل الحلفاء والشعوب الغربية، لتأخير انفكاكها عن النفوذ الغربي.
ثانياً: ضمن عملية الانتقال الكبرى الجارية، فإنّ المجموعة الغربية، وواشنطن خصوصاً، تعمل على استنفاد مختلف أدوات وأذرع قوتها التي كرّستها خلال العقود الماضية، وضمناً الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والإقليمية و«الحلفاء»، بما في ذلك الناتو والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وغيرها. وبكلام آخر، فإنّ النخبة الرأسمالية العالمية بمركزها الغربي الأمريكي، تعمل على تدفيع حلفائها القريبين والبعيدين، أكبر قدر ممكن من فاتورة التراجع بالمعنى الدولي، وتؤخر بذلك دورها في الدفع، لعل وعسى ينخفض ما عليها دفعه، أو تنجح مع الوقت في قلب اتجاه التاريخ...
ثالثاً: ضمن الملفات الإقليمية، نرى أنّ الخطاب الأمريكي هو استمرار لخطاب ترامب، وبالأحرى هو استمرار للخطاب الرافض للوصول إلى أية حلول أو تسويات للأزمات الإقليمية، ينطبق ذلك على أوكرانيا وسورية وغيرها من الملفات (إيران هي حتى الآن استثناء يكاد يكون وحيداً ضمن الخطاب)... في حين أنّ السلوك العملي يجعل مما يجري حول الملف الإيراني القاعدة لا الاستثناء...
في السياق نفسه، نرى في سورية أنّ المساحات التي ما تزال معطاة للهراء الذي يلقيه جيفري هي مساحات غير قليلة، رغم أنّه بات خارج عملية صنع القرار بالمعنى الرسمي على الأقل (إذا وضعنا جانباً الاستفادة المالية المباشرة التي بات من الواضح أنه يتلقاها نتيجة نشاطه "الضاغط" في موضوع النفط السوري). بالمقابل فإنّ احتمالات الوصول إلى توافق على أساس ٢٢٥٤ هي احتمالات باتت أكثر واقعية من أي مرحلة مضت. ما يعني أنّ الإدارة الأمريكية تستخدم جيفري وأمثاله، وأصواتهم العالية، للتغطية على التراجع والانكفاء الأمريكي في الملف السوري، والمتوقع في وقت غير بعيد...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1019