ما المتوقع من قمة بوتين- بايدن؟ عموماً وفي الشأن السوري
قراءات وتحليلات عديدة بدأت بالظهور بكثافة، حول قمة بوتين بايدن التي قد تعقد في وقت ما من الشهر القادم، وذلك على الرغم من أن تفاصيل كثيرة حول هذه القمة لا تزال غير معروفة؛ بما في ذلك مكان انعقادها (الذي قيل إنه سيكون بلداً ثالثاً، أي: ليس في روسيا ولا الولايات المتحدة) وتاريخها (الشهر المقبل هو موعد تأشيري دون تحديد يوم معين)، وربما أهم التفاصيل غير المعروفة بعد حول هذه القمة هو هل ستحدث فعلاً أم لا.
ضمن التوتر والتصعيد الهائل الذي يعيشه عالمنا المدجج بالسلاح النووي، فإنّه ليس من الصعب توقع أن قمة أمريكية روسية وأخرى أمريكية صينية، وربما ثلاثية، هي أمور لا بد ستحدث في وقت ما خلال فترة بايدن، بل ويشير حجم التصعيد الهائل إلى أنّ انعقاد تلك القمم لن يتأخر كثيراً.
قبل أقل من شهرين، وخلال مقابلة معه في 16 آذار، أجاب الرئيس الأمريكي جو بايدن محاوره بـ«نعم»، حين سأله هل توافق على القول: إنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «قاتل». وبعد أيام قليلة رد الأخير بتسجيل طريف رأى فيه كثيرون أنه سخرية من حالة الصحة العقلية لبايدن بشكل شخصي، ولكنه كان فعلياً سخرية من الصحة العقلية للمنظومة الأمريكية التي تطلق تصريحات من هذا النوع. ضمن الرد، تحدى بوتين نظيره الأمريكي لإجراء محادثة وجهاً لوجه. قبل أسبوعين تقريباً، وجه بايدن دعوة لبوتين لعقد قمة ثنائية.
بايدن «الصلب» وترامب «المتساهل»!
رغم أنّ هنالك «قناعة» رسّختها وسائل الإعلام الغربية، تقول: إنّ ترامب كان «متساهلاً» مع الروس، إلا أنّه حتى ضمن مقياس شكلي، فإنّ أول قمة عقدت بين ترامب وبوتين جرت بعد أكثر من عامٍ ونصف من استلام ترامب لمنصبه، في هلسنكي 16 تموز 2018. في حالة بايدن، وإنْ عقدت القمة الشهر القادم، فهذا يعني أنها تعقد بعد خمسة أشهر فقط من توليه منصبه...
وهل يمكن لهذا الفارق أن يعني أي شيء؟ وبكلام آخر، هل يمكن بناء أي شيء على سرعة الحديث عن قمة ثنائية مقارنة بالسابق؟
نعتقد أنّ هذا الفارق مهم، وهو ليس فارقاً شكلياً فحسب؛ فالمعتاد دبلوماسياً بين الدول، وخاصة الكبرى منها، وخاصة في مراحل الأزمات والتوترات، أنّ انعقاد قمة رئاسية بين أية دولتين لا يمكن أن يتم إلا بعد إنجاز قدر غير قليل من التفاهمات المتبادلة حول معظم المسائل الأساسية ذات الاهتمام المشترك، وحينها يكون لقاء الرؤساء نوعاً من «المباركة» لاتفاقات منجزة أصلاً، ولا يخلو الأمر بالتأكيد من نقاط عالقة ذات أهمية كبرى لم تحسمها الفرق الفنية من الطرفين توضع على طاولة الرئيسين لحسمها إن كان ذلك ممكناً.
بكلام آخر، فإنّ الدول أثناء فترات التصعيد المتبادل، تكون من الناحية النظرية أمام ثلاثة احتمالات:
1. رفع التصعيد نحو الحرب، وهذا احتمال غير عملي في هذه الحالة، ولم يعد أصلاً إمكانية بالنسبة للولايات المتحدة بالمعنى العسكري بشهادة وزير دفاعها السابق أمام الكونغرس الأمريكي... فروسيا باتت تملك أكثر بكثير مما يكفي للردع.
2. الحفاظ على درجة تصعيد مضبوطة ولفترة طويلة من الزمن، أو ما يسمى سياسة عض الأصابع.
3. تصعيد كثيف وسريع جداً، دون الوصول إلى الحرب، تمهيداً لتفاهم سريع، وهو ما يسمى أحياناً سياسة حافة الهاوية.
إذا حاولنا تصنيف القمة المفترضة ضمن هذه الاحتمالات، فإنها تنسجم مع الاحتمال الثالث؛ الاحتمال الأول: منفي، والثاني: يتناقض مع انعقاد قمة قريبة، ويتناقض أيضاً مع سرعة التصعيد وحدته، ويتماشي أكثر مع استمرار التصعيد وتأجيل القمة سنة أو سنتين على الأقل.
الطريقة التي عملت بها إدارة بايدن خلال أربعة أشهر من استلامها بما يخص العلاقة مع روسيا، تتناسب تماماً مع الاحتمال الثالث: تصعيد سريع في جميع الملفات تمهيداً لاتفاق سريع...
شمل التصعيد الجوانب الدبلوماسية (طرد دبلوماسيين، لغة غير دبلوماسية... إلخ)، والاقتصادية (عقوبات اقتصادية ومالية بالجملة، بما في ذلك على خط السيل الشمالي وعلى أطراف ثالثة تتعامل مع روسيا وخاصة أطراف أوروبية)، وشمل التصعيد حتى الجوانب العسكرية (الإعلان عن مناورات على التخوم الروسية، وحشد قوات على الحدود من جهة أوكرانيا وغيرها الكثير).
وأما عن الامتداد الجغرافي للتصعيد فيمكن القول: إنه شمل معظم المساحة العالمية من القطب الشمالي حتى الجنوبي، ومن أمريكا اللاتينية إلى سيبيريا... ناهيك عن الفضاء وسباق التسلح فيه.
لماذا التصعيد السريع
نعتقد أن الاستهداف الضمني لإدارة بايدن كان منذ اللحظة الأولى، هو محاولة الوصول إلى تفاهم ما مع الروس. وجوهر المسألة هو أنّ النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة ورغم انقسامها العميق إلا أنها تتفق بالحد الأدنى على أنّ من الضرورة بمكان منع وقوف الصين وروسيا في صف واحد ضد الولايات المتحدة، وإنْ لم يكن ذلك ممكناً فعلى الأقل ينبغي تحييد إحدى القوتين.
ولما كان الأمريكي يرى في الصين الخطر الأكبر بالمعنى الاقتصادي، ويرى أنّ القوة العسكرية الروسية المكافئة نووياً للأمريكي، تلعب بطريقة أو بأخرى دور مظلة للصيني بالمعنى الدولي ضمن الصراع الجاري، فإنه لا بد من بذل كل ما يمكن للتفريق بين الطرفين، أو كما أسلفنا تحييد أحدهما، وهو الروسي.
هذا الأمر ليس جديداً بالنسبة للأمريكي، ولا بالنسبة لكل من الصيني والروسي؛ إذ إنّ هنالك ما يشبه الإجماع لدى مراكز الأبحاث، أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ عملياً مع الافتراق والخلاف السوفياتي الصيني. ولكن الدرس كان قاسياً على الطرفين، قاسياً جداً بحيث لا يمكن نسيانه إطلاقاً...
ورغم ذلك، يبدو أنه لا خيار أمام الأمريكان أمام تصاعد وتعمق أزمتهم، وعلى الخصوص أمام تعمق العمل الصيني- الروسي على دفع الدولار خارج مساحات أوسع فأوسع من التداول العالمي.
نعتقد أنه من الممكن فهم التعامل مع الملف الإيراني بالمنطق نفسه تقريباً؛ فتركيز الجهود صوب الصين يتطلب التخفيف من أعباء كثيرة، مع محاولة التأسيس لاصطفافات مختلفة خلال عملية التخفيف من الأعباء...
بالعودة إلى القمة مع الروسي، وإذا كانت الولايات المتحدة لم تتمكن من إخضاع بلد بحجم إيران وبقدراتها الاقتصادية والعسكرية، فكيف الأمر مع بلد بحجم روسيا؟ لذا فإنّ تفسير التصعيد يكمن كما أسلفنا في مكان آخر، هو محاولة التخفيف من أعباء معينة ومحاولة خلق اصطفافات لا يكون الأمريكي معزولاً ضمنها.
سورية وأوكرانيا
الملفات المتصارع عليها بين روسيا والولايات المتحدة هي ملفات كثيرة، ولكن الملفين السوري والأوكراني يتمتعان بأهمية خاصة جداً...
فلنتذكر أنّ منطق النخبة الأمريكية، ومنطق المؤسسة الأمريكية، وفي إطار انتقاد ترامب وسياساته، كان قائماً على فكرة بسيطة وصحيحة: لا يجوز أن نخسر حلفاءنا التاريخيين ببساطة وبسبب تصرفات رعناء... والمنطق الضمني هو: صراعنا الأكبر هو مع الصين، العملاق الاقتصادي، ومع روسيا في إطار علاقتها مع الصين وفي إطار دورها المتوسع بشكل مطرد. وضمن هذا الصراع ينبغي أن نجند كل القوى الغربية خلفنا، ناهيك عن الحاجة لإحداث شروخ عميقة في صفوف الأعداء. فأية حال بائسة هي ما وصلنا إليها (كأمريكيين)، فصف الأعداء يزداد رسوخاً بينما تتزعزع صفوفنا...
بالعودة إلى سورية وأوكرانيا، فإنّ بين الأطراف المنخرطة في هاتين الأزمتين بشكل مباشر أو غير مباشر، أهم حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين: أوروبا ودول الخليج العربي وتركيا والكيان الصهيوني.
هاتان الأزمتان مستمرتان بالتوازي مع عجز الولايات المتحدة عن تحقيق أي شيء ضمنهما سوى إطالتهما، وسوى الإضرار بحلفائها التاريخيين وفقد ثقتهم وزعزعة اصطفافهم التاريخي... مثلاً تركيا، الخليج العربي، وبعض الدول الأوروبية التي باتت ترفع صوتها بالاعتراض على المعلم الأمريكي.
مما يعني أنّ المفاضلة الأمريكية ربما وصلت إلى الحدود التالية: إما أنْ نعترف بالخسارة في سورية وأوكرانيا، ونحاول البحث عن صيغة تحفظ ماء الوجه عبر الحوار مع الروس. أو أن نبقي الأزمتين مشتعلتين ونخاطر لا بخسارة سورية وأوكرانيا على المدى المتوسط فحسب، بل وبخسارة أهم حلفائنا التاريخيين بسبب سورية وأوكرانيا! التعامل مع إيران وملفها النووي مشابه في منطقه العميق على ما نعتقد...
مرة ثانية: لماذا التصعيد السريع؟
التصور الذي طرحناه أعلاه يتمحور حول فكرة أساسية هي كيف تحاول الولايات المتحدة إدارة التراجع بالمعنى الإستراتيجي في إطار الصراع مع القوى الصاعدة، على أمل تأخير التراجع وتحين فرص مناسبة لعكسه إن تمكنت من فعل ذلك.
ولكن هنالك ما يمكن أن يقال أيضاً حول شكل التراجع، وبالأحرى حول طريقة إخراج المسرحية: التصعيد الكبير ضد روسيا خلال الأشهر الأربعة الماضية، والذي ربما سيستمر بضعة أشهر أخرى إضافية، يؤمّن أمرين:
أولاً: توحيد الصف الأمريكي الداخلي. لا ينبغي أن ننسى أنّ الانقسام العميق الذي ظهر نهايات العام الماضي وبداياته لم يختف، بل لا يزال موجوداً تحت الرماد... والتصعيد الهائل بالمعنى الخارجي كان دائماً إحدى أهم أدوات الأنظمة المختلفة في تصدير تناقضاتها الداخلية والتغطية عليها... ولذا فإنّ لغة حربجية قد تكون مفيدة في هذا السياق.
ثانياً: وهو الأهم، أنه باعتقادنا، أنّ قرار التنازل أمام روسيا في بضعة ملفات كبرى بينها سورية وأوكرانيا قد تم اتخاذه بالفعل، والحربجية التي نراها أمريكياً هي القنابل الدخانية الكثيفة للتغطية على التنازلات التي سيجري تقديمها في وقت غير بعيد.
علينا أن ننظر باهتمام فيما تقوله مراكز أبحاث العدو الصهيوني في هذا المجال، وأن ننظر فيما يقوله جيفري لأنّه لا يخاطبنا بنشاطه المحموم الذي يمارسه مؤخراً، بل يسعى إلى دعم الرأي الذي يحمله هو وبولتون وآخرون، والقائل بأنه لا يجوز التنازل لروسيا، وربما تقوم وجهة نظر هؤلاء على أنّ ما سيجري هو أن الولايات المتحدة ستتنازل لروسيا ولن تتمكن من التغلب على الصين، وستسرع بذلك من خسارة دورها العالمي...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1017