لماذا يُصرّ الغرب على لوم الصين على أزمته؟
أوديت الحسين أوديت الحسين

لماذا يُصرّ الغرب على لوم الصين على أزمته؟

استمرّت الرأسمالية بالتحوّل بشكل متزايد إلى «الأَمْوَلة Financialization» تبعاً لأنّ التمويل كان، ولا يزال، الطريقة التي تؤثر في انتقال السطوة. لكنّ الطور الحالي لرأس المال المالي قد وصل تقريباً إلى نهايته، حيث فقد المنطق الذي تحكمه وسائل إبداعه، وبات خطر النيوليبرالية يشكل تهديداً داخلياً لدول المركز ذاتها. وما الاستجابة بزيادة مستوى القمع والتحوّل إلى شكله المباشر عبر سنّ القوانين المناهضة للتجمّع والاحتجاج، إلّا إشارة إلى مدى تعمّق الأزمة الرأسمالية التي تواجه النخب في هذه الدول.

يستمرّ المركز الغربي، ومركزه الولايات المتحدة تحديداً، بلوم النمو الاقتصادي الصيني على الأزمة التي يعيشها، رغم أنّ الصين تلعب بالقواعد التي استمرّت الرأسمالية الأمريكية بصياغتها على طول العقود الخمسة الماضية، ضمن ما بات يعرف «بالعولمة الرأسمالية». اليوم، وبعد أن فكك الرأسماليون الغربيون مصانعهم ونقلوها إلى أقاليم الإنتاج ذي التكاليف الأخفض وخاصة في آسيا، وبعد كلّ الآثار التي تركتها هذه العمليّة من بطالة لشعوبهم، وحفاظ على الدكتاتورية– السياسية والاقتصادية– والقمع الرجعي في العالم النامي لإدامة «التكاليف الأخفض»، يخرج هؤلاء الرأسماليين ذاتهم علينا عبر وسائل إعلامهم وسياسييهم ليحذرونا من صعود الصين. يطالبون شعوبهم وحلفاءهم بالوقوف صفاً واحداً ضدّ الصين: مصدر تهديد «القيم الغربية» التي حرصوا على مدى العقود الماضية على إفهامنا بأنّها «قيمٌ عالمية» وليست «قيماً برجوازية».
البرجوازية الصغيرة– وهي التي قال عنها غرامشي منذ حوالي القرن بأنّها الأساس الرجعي للفاشيّة الأوروبية دون أن يتغيّر الأمر اليوم– وقعت ضحيّة قانون تركّز الثروة الرأسمالي. تسقط الأعمال الصغيرة بشكل سريع نتيجة الأزمات المتتالية، وعدم قدرة أصحابها على النجاة في مواجهة الأعمال المدعومة بمال كبير يسمح لها باحتمال الضربات دون أن تسقط على الفور. وهذه الأعمال التي تسقط، سواء أكانت متاجر أم شركات نفط صغيرة أم مختبرات أدوية صغيرة... إلخ، تذهب في نهاية المطاف لتصبح ضمن أملاك ذات الأعمال والبنوك التي أسقطتها. أعضاء طبقة البرجوازية الصغيرة، وهم الذين استمروا لسنوات بتغذية أسطورة «الاستقلالية والاعتماد على الجدارة» باتوا مستائين عندما انقلبت عليهم الظروف وباتوا ضحايا. ليست الصين هي من أسقطهم، وليست الصين هي من تركتهم فريسة للأعمال الكبرى وللأزمات دون أن تقدّم لهم دعماً حكومياً حقيقياً ينجيهم من السقوط.
العمّال الغربيون الذين شكّلوا يوماً ما يسمّى «بالأرستقراطية العمّالية»، كانوا الأكثر تضرراً من التقشف ونقل الإنتاج إلى الخارج. فهؤلاء وجدوا أنفسهم يعانون من جميع المشاكل التي يعاني منها العالم النامي والأكثر تخلفاً، بعد أن استمرّت الآلة الإعلامية البرجوازية على مدى سنوات بإقناعهم بأنّ أوضاعهم الأفضل ناجمة عن الاصطفاء الطبيعي، سواء أكان عرقياً أم قومياً. هؤلاء العمّال، بعد قيام النخب بتفكيك نقاباتهم وأحزابهم وحرف ما تبقّى منها عن مسارها، لم يجدوا إلّا المهاجرين والملونين والمختلفين دينياً وعرقياً، بحسب الحال، ليحملوهم المسؤولية. دون التنظيم الحزبي والنقابي اللازم، لم يتمكن هؤلاء العمّال الغربيون من إدراك أنّ المهاجرين أتوا إليهم لأنّ جيوش بلدانهم، والتي تتسلّح بتمويل من ضرائبهم، خرجت ودمّرت وعاثت في الأرض فساداً. وقع هؤلاء في حبائل التنظيمات السياسية والإعلامية المرتبطة برأس المال المالي، فتحولوا إلى «يمين متطرف». ليست الصين من فككت أنظمة الرفاه الغربية وتركت العمّال دون تعويضات بطالة أو رعاية صحية أو تعويضات اجتماعية، وليست الصين هي من سرقت أعمالهم ومصانعهم.

الصين غير المطواعة

سلاسل التوريد العالمية هشّة، وقد توضحت هشاشتها العالميّة في أقلّ من عام، مرّة عندما ضرب الوباء، وأخرى عندما علقت سفينة شحن في قناة السويس. المسؤول عن هذه الهشاشة هو نقل الإنتاج الغربي للخارج وتركيزه في الدول ذات العمالة زهيدة الثمن والقوانين البيئية والعمّالية الضعيفة، والمحاولات المستمرة لتخفيض التكاليف عبر تقليل المخزون، والاعتماد على التسليم. إنّه الجشع المتجذر في طبيعة النظام الرأسمالي من أدّى إلى هذه الإجراءات والآليات. لكنّ هذا الأمر ليس بيد الرأسمالية المالية أن تتراجع عنه، أو تتخطاه، فهو جزء من تكوينها كنظام، والصين هنا ذنبها الوحيد أنّها لم تطع «القوانين الرأسمالية».
الغضب الحقيقي الذي يجتاح النخب الغربية على الصين مرتبط بشكل رئيسي بعدم استمرار الصين بإطاعة قانون «التبادل غير المتكافئ» و«التنمية المتفاوتة». فعندما نقل الرأسماليون إنتاجهم إلى آسيا، والصين جزء أساسي منه، عندما كانت تخدم الرأسمال العالمي بوصفها «ورشة تجميع» عالمية، كان ذلك مشروطاً بالتزام الصين بالنظام الاحتكاري الذي تحتكر فيه الشركات الرأسمالية الكبرى التكنولوجيا، وتسيطر على التدفقات المالية، وتبقى مهيمنة عسكرياً من خلال الدول الغربية المركزية. ورغم أنّ الضوابط التي وضعتها الصين على حركة رأس المال منذ البدء لم تعجب هؤلاء النخب، إلّا أنّ الأرباح التي كانوا يحققونها في الصين بسبب العروض المنافسة لجميع دول الإقليم، وآمالهم بحدوث تغيير في النظام الصيني– ثورة ملونة على سبيل المثال– هو ما جعلهم يستمرون «ميل النظام الرأسمالي ليدمر نفسه بنفسه».
لكنّ الصين، وبسبب رفضها التحوّل «لرأسمالية»، واستمرار الحزب الشيوعي الصيني بتوجيه النمو الاقتصادي، لم تعد دولة طرفيّة ساكنة، وباتت تملك التكنولوجيا وتسعى إلى تطويرها. بل والأكثر من ذلك، إنّها لم تعد تلتزم بالتقسيم التقليدي للأسواق النيوليبرالية «منتج في دولة فقيرة لصالح مستهلك في دولة غنية»، فهي تسعى إلى الاعتماد على سوقها الداخلية، عبر إجراءات متكررة بشكل منتظم لرفع القدرات الشرائية لمواطنيها.
وقفت الصين في وجه الآليات الإمبريالية في إعادة إنتاج الفقر في الدول الأطراف باستمرار من خلال اتباع إجراءات تحدّ من استيلاء نخب المركز على فائض القيمة المنتج في هذه الدول، والقضاء على الفقر المدقع في الصين هذا العام، كافٍ للدلالة على أنّ الصين لم تعد «ورشة تجميع» تابعة للمركز. لا يعني هذا أنّ النخب الغربيّة لم تعد تستولي على فائض القيمة الذي ينتجه العمّال الصينيون بشكل كلّي، بل يعني بأنّ تراجع قدرتهم على الحفاظ على ذات مستويات الاستيلاء هو ضربة لجوهر الرأسمالية- النيو ليبرالية. لقد قامت الصين ببساطة بمناهضة النظام القائم عبر رفض الاستمرار فيما سمّاه سمير أمين «بإعادة الكومبرادورية إلى اقتصادات الأطراف ومجتمعاتها، من خلال سياسات الانفتاح «المفروضة» والتخصيص والتكيّف الهيكلي الوحيد الجانب لمستلزمات العولمة الرأسمالية».
السخرية هنا، أنّ كلّ ما نسمعه اليوم في الغرب من أحاديث عن «الوطنية/ القومية» يناقض قدرة هذه النخب على التراجع عن السياسات التي أدّت إلى أزمتهم في المقال الأول، وهي بالتالي خطبٌ لا تخدم إلّا هدف تعزيز قوّة «اليمين» للبقاء على رأس هذه الدول المتراجعة. ففي عهد إدارة أوباما تمّ إنقاذ وول ستريت والنظام النيو ليبرالي ضمن أحد الأهداف، أن تشكّل طليعة ضدّ القوة الاقتصادية الصينية، واتخذت الإجراءات اللازمة لنقل القوات الأمريكية لتطويق وحصار الصين عبر «محورة آسيا». لكنّ وول ستريت والنيو ليبراليين استمروا باستخراج الأرباح من نقل الإنتاج إلى الصين وآسيا، بما في ذلك الإنتاج العسكري.
أزمة الغرب هي أزمة الرأسمالية، وتصدّع الطور النيوليبرالي في طريقه إلى الزوال، وقد يعني بداية تصدّع الرأسمالية بأكملها، وبالتالي زوالها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1012