الانفكاك المتسارع في عالم «ما بعد الولايات المتحدة»
رغم أن «التحالف عبر الأطلسي» لا يزال قائماً ويتمتع ببعض القوة العسكرية، فقد شهدت السنوات الأربع الماضية على نحو متزايد أنه أصبح غير ذي جدوى من حيث قدرته على ضبط إيقاع العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا، والاتحاد الأوروبي وروسيا، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كما أن قدرة هذا التحالف على التأثير في نتائج الصراعات المختلفة قد انخفضت انخفاضاً كبيراً على مدى السنوات القليلة الماضية.
تبدو هذه الصورة متجسدة بشكلٍ واضح في الطريقة التي واصلت الولايات المتحدة فيها الانسحاب من أفغانستان رغم تحذيرات حلف شمال الأطلسي «الناتو». والسبب الأكثر أهمية في هذا التنافر المتزايد بين الجانبين الأمريكي والأوروبي هو التغير الذي حدث في أوروبا نفسها، حيث وضعت أغلبية الدول الأوروبية نفسها في مواقعٍ لا تسمح بالتقارب السلس مع الولايات المتحدة كما هي العادة، وهو الاتجاه الذي من المرجح أن يتصاعد خلال الفترة المقبلة.
القوة المعطلة وحجة ترامب
إذا كان أحد الأسباب الواضحة لأزمة «حلف الناتو» هو تركيز ترامب سابقاً على ضرورة رفع مساهمة الدول الأوروبية بشكل أكبر في الإنفاق الدفاعي للحلف، فإن إدارة جو بايدن سوف تضغط من أجل الشيء ذاته، وهذا يعني أن القوى الأساسية التي أشعلت «أزمة الناتو» سوف تستمر في لعب دورها خلال السنوات المقبلة، الأمر الذي يسمح للدول الأوروبية بأن تركز على الداخل أكثر فأكثر لتحديد سياساتها الخارجية والعسكرية في مرحلة يصح تسميتها بمرحلة «ما بعد الولايات المتحدة».
وسبق أن تفاقمت أزمة الناتو بسبب تغيّر التصور الأوروبي للولايات المتحدة، من كونها قائداً عالمياً يحمل القيم الديمقراطية إلى «قوة معطّلة» في ظل إدارة ترامب، ومن المرجح أن تستمر قوة التعطيل هذه- حتى بعد أن خرج ترامب من البيت الأبيض- في التأثير على السياسة الأمريكية، وهنا ينبغي التذكير بمضمون خطاب الوداع الذي أعلن فيه ترامب أن حركته «لا تزال في البدايات فقط». وبالنسبة لأوروبا، يمكن أن يكون لهذه «الحركة» تداعيات كبيرة على الساحتين السياسية المحلية والدولية على حد سواء.
من غير المرجح أن يتغير مسار «الاستقلالية» الذي اختار الأوروبيون اتباعه بحجة سياسات ترامب، وهي سياسات موجودة في بنية الجسم السياسي الأمريكي ونخبته الحاكمة، الأمر الذي يمكن أن يعيد وصول «دونالد ترامب» آخر إلى البيت الأبيض في غضون السنوات الأربع المقبلة. ولهذا، فإن التمسك بمسار «الاستقلالية» أمر منطقي بكل السبل الممكنة بالنسبة لأوروبا.
أوروبا تبحث عن «حياد»
بدت الآلية التي تغيرت فيها أوروبا واضحة من خلال دراسة استقصائية أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مؤخراً. حيث تظهر نتائج هذه الدراسة أن الغالبية العظمى من الأوروبيين لا يعتقدون أن جو بايدن قادر على إحياء الولايات المتحدة كـ «زعيم عالمي»، وتظهر إحدى النتائج الرئيسة للمسح أن «الأغلبية في الدول الأوروبية الرئيسة تعتقد الآن أن النظام السياسي الأمريكي معطل، وأن أوروبا لا تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة فقط للدفاع عنها». وبما أن الولايات المتحدة لم تعد «زعيماً عالمياً» ولن تكون لدى جو بايدن أية فرصة لإحياء مكانتها السابقة، فإن «الأغلبية الأوروبية تعتقد أن الصين سوف تكون أقوى من الولايات المتحدة في غضون عقد من الزمان، وتريد أن تبقى بلادهم محايدة في صراع بين القوتين العظميين».
بعبارة أخرى، فإن ما يعنيه ذلك هو أنه في حين يعتقد الأوروبيون أن بايدن سيحاول تكثيف الحضور على الصعيد الدولي وتجنب سياسة «أمريكا أولاً» التي اتخذها ترامب، فإن الولايات المتحدة لم تعد لديها القدرة على جعل نفسها «عظيمة» مرة أخرى. ورغم أن جو بايدن قد تكون لديه رغباته في إحياء التحالف عبر الأطلسي، فإن أوروبا لم تعد مهتمة ببساطة بإخضاع أجندتها لجدول أعمال الولايات المتحدة.
وقد أعاد وزير المالية والاقتصاد الفرنسي، برونو لومير، تأكيد ذلك بشكل قاطع في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز»، حيث أكد أن «الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية لديها خيار إستراتيجي... نحن بحاجة إلى التحرك في مكافحة تغيّر المناخ، وبناء بنى تحتية صناعية جديدة، والابتكار، وتمهيد الطريق لقارة أوروبية جديدة تكون أقوى وأكثر استقلالية، وقادرة على خوض سباق التكنولوجيات الجديدة».
ضرب القيادة العالمية للولايات المتحدة
في وقتٍ تقوم فيه أوروبا بخياراتها الخاصة نسبياً في ضوء التغيير الجوهري في الطريقة التي ينظر بها الأوروبيون إلى أنفسهم وإلى الولايات المتحدة، فقد أحاط جو بايدن نفسه بدعاة التدخل الذين يعتقدون أن العالم من دون «رعاية» الولايات المتحدة وتدخلاتها لا يستطيع البقاء. وقد أكد ذلك وزير الخارجية الأمريكي المعين، أنتوني بلينكن، خلال جلسة إقرار تعيينه، إذ قال: إن القيادة العالمية الأمريكية «لا تزال مهمة لأن العالم غير قادر على تنظيم نفسه عندما لا نكون في القيادة، حيث قد تغتصب بعض الدول الأخرى الدور القيادي الذي تلعبه أمريكا ويؤثر على مصالحنا وقيمنا».
ومع اعتقاد الأغلبية الساحقة من الأوروبيين، بمن فيهم دول المركز، بأن النظام السياسي في الولايات المتحدة قد انكسر تماماً، فإن مزاعم بلينكن بشأن الزعامة العالمية للولايات المتحدة لا تعدو كونها محاولات إنكارية من قوّة دولية متراجعة. وهذا ما نراه بشكلٍ خاص في الدفع الأوروبي المتزايد لإعادة تعريف العلاقات الأوروبية مع روسيا من خلال مشروع السيل الشمالي 2، ومع الصين من خلال صفقة الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي التي تم إبرامها مؤخراً.
في هذا السياق، فإن تغيّر الموقف في أوروبا سوف يجعل «القارة العجوز» أكثر حزماً في تحديد سياسات حلف الناتو، وكما قال الوزير الفرنسي: «رغم أننا ما زلنا حليفاً للولايات المتحدة، فإننا حليف لا يريد الخضوع»، مضيفاً: أن هنالك فرقاً واضحاً بين «العمل مع» الولايات المتحدة و«العمل تحت إمرة» الولايات المتحدة. الأمر الذي يجعل من الصعب على إدارة بايدن أن تؤسس قيادة أمريكية وتقنع الأوروبيين بأن الزعامة الأمريكية هي السبيل الوحيد لضمان الأمن الاقتصادي والعسكري للقارة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1004