«أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية».. شعار طوباوي أم ضرورة علمية؟
ورد في مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية (الذي أقر إطلاقه في 31/8/2013) أنه بالجانب الاقتصادي: «برزت الحاجة الملحة لصياغة نموذج اقتصادي بديل يقطع نهائياً مع الليبرالية الاقتصادية سيئة الصيت ويستفيد من إيجابيات وأخطاء المرحلة المسماة (التحويل الاشتراكي). نموذج جديد شعاره الأول: هو (أعمق عدالة اجتماعية لأعلى نمو اقتصادي)، أي أن أي نموٍ لاحق لم يعد ممكناً دون إعادة توزيع جديةٍ للثروة الوطنية لمصلحة القوى المنتجة بالتحديد. حيث تتوزع الثروة (الدخل الوطني) حالياً على شكل (80% لأصحاب الأرباح الذين لا يتجاوزون 10% من السكان، و20% لأصحاب الأجور الذين يشكلون حوالي 90% من السكان) وكسر هذا الشكل من التوزيع وتصحيحه ليصبح كخطوة أولى بحدود (50%، 50%) يحتاج زمناً بين 5 و7 سنوات ضمن دورٍ قويٍ ذكيٍ ومرنٍ للدولةً مضبوط بأعلى درجات الرقابة الشعبية»
فهم المتغير والثابت بالرأسمالية
من القواعد العلمية المعروفة التي يهتدي بها حزب الإرادة الشعبية منذ أن كان «تيار قاسيون» و«اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين» هي التطبيق العملي لمقولة «التفسير والتغيير» الماركسية، والتي لعل أحد جذورها الفكرية الباكرة تعود إلى موضوعة ماركس في «موضوعات عن فورباخ»: اكتفى الفلاسفة قديماً بتفسير العالم، ولكن المطلوب اليوم هو تغييره... وتطويراتها اللاحقة. ولا بد من التفسير الصحيح للواقع من أجل تغييره بالاتجاه المطلوب. والتفسير الصحيح للواقع يقتضي ليس فقط معرفة «الثابت» و«المتغير» فيه، بل والحذر من خطر «اعتبار الثابت متغيراً والمتغير ثابتاً، مما يتطلب جهداً فكرياً دائماً من أجل تحديد الحدود الحقيقية بينهما، والتي كانت إحدى الإشكالات التي أدت إلى الجمود أو العدمية في التعامل مع الماركسية» (د. قدري جميل في ندوة «الماركسية اليوم» تموز 2003).
فيما يتصل بموضوعنا عن العدالة والنمو، نجد تطبيقاً ديالكتيكياً لفهم المتغير والثابت في الرأسمالية، من خلال إدراك أنّ بعض القواعد التي ربما كانت صحيحة في فترات تاريخية معينة من تاريخها قد تغيرت اليوم، ومن هذه المتغيرات التي تمت قراءتها بشكل صحيح العلاقة بين العدالة والنمو: ففي كتابه «الأزمة السورية. الجذور والآفاق» (2019)، في فصل «النموذج الجديد» (ص175) ذكر الدكتور قدري جميل:
«سيعتمد النموذج الجديد عكسَ مخرجات النموذج السابق؛ بمعنى أننا نحتاج نمواً عالياً، وأعمقَ عدالةٍ اجتماعية ممكنة. كانت الليبرالية تروج دوماً أن العدالة والنمو ضدّان لا يلتقيان، أي أنّ تأمين أحدهما ينسف الآخر، وهذا ربما كان صحيحاً في فترات تاريخية معينة من تطور الرأسمالية؛ كان صحيحاً في مرحلة تأمين التراكم الأولي. ولكن حجم التراكم على المستوى الكُلّي والجزئي، وفي كل مكان، أصبح عالياً جداً، وباتت المشكلة اليوم معاكسةً تماماً، أي أن تأمين أي نمو بات يحتاج إلى عدالة التوزيع... بكلام آخر، فقد بات نسف تمركز الثروة ضرورة لتأمين النمو، لأن الموارد موجودة ومحصورة بأيدٍ قليلة، وهو الأمر الذي يمنع الاستهلاك، ويقطع الدورة الموسعة للإنتاج. لذلك، إذا كان النمو فيما مضى شرطاً ضرورياً لتأمين درجة ما من العدالة، فإن العدالة اليوم، باتت الشرط الضروري للنمو، ودون تحقيقها لا يمكن تحرير تلك الموارد المتراكمة والمحجوزة بأيدي قلةٍ قليلةٍ، ولها شكل رأس مال مالي وبعيدة عن الإنتاج».
العوامل المؤثرة بالنمو
هناك ثلاثة عوامل رئيسية كما شرحها الدكتور قدري جميل في كتابه (ص248-251) وهي: معدل التراكم في الدخل الوطني، والعلاقة بين الأجور والأرباح، والفاقد الاقتصادي بوصفه السبب الأساسي في انخفاض معدلات النمو.
وبالنسبة لمعدل التراكم، كما ورد في ص249 من كتاب د. قدري المذكور أعلاه: تفيد التجربة بأنّ معدل (10%) من الدخل الوطني يسمح فقط بإعادة الإنتاج البسيط، أي بالحفاظ على حجم إنتاج الثروة الجديدة السابقة، يعني يؤمن معدل نمو (0). وكل نقطة تراكم إضافية تؤمن نسبة نمو معينة لها علاقة في نهاية المطاف بـ«عائدية الرأسمال الموظف»، أيْ ريعية الاقتصاد الوطني. ولكن محاولة رفع النمو من خلال التركيز على رفع التراكم فقط، أو بشكل مبالغ فيه يحمل خطر الانعكاس السلبي على معدلات الاستهلاك مع ما يحمله ذلك من خطر عدم القدرة على إعادة إنتاج قوة العمل. ومن خلال فهم هذه القوانين العلمية جاءت الفكرة الإبداعية بالتركيز على «عائدية رأس المال الموظف»، والتي بدورها يمكن رفعها من خلال عدة عوامل يمكن الرجوع إليها من مشروع برنامج الحزب، لكن نذكر هنا أهمية طرح فكرة الميزات المطلقة في الاقتصاد السوري مثل «الغنم العواس» و«الوردة الجورية» وبعض «الأعشاب الطبية النادرة» التي لا توجد إلا في سورية حصرياً.
العدالة شرط النمو تعني
ضرورة التغيير السياسي
تجدر الملاحظة، أنّ العاملين الآخرين المهمين بالتأثير بالنمو (العلاقة بين الأجور والأرباح) و(الفاقد الاقتصادي) هما على صلة مباشرة وأكثر وضوحاً بتوزيع الثروة في البلاد، والتي من الواضح بأنه لا يمكن إعادة تصحيحها بشكل كافٍ لتحقيق نمو كافٍ سوى بتغيير هذا التوزيع، ومن هنا جوهر فكرة أنّ العدالة الاجتماعية باتت ضرورية لتحقيق النمو الذي يعود بدوره فينعكس ديالكتيكياً على زيادة العدالة الاجتماعية بسبب تحقيقه وفرة (عدالة في الوفرة). لكن العكس غير صحيح، بمعنى لا ضمانة للعدالة بمجرد زيادة النمو في ظل النهب والفساد وجور العلاقة بين الأجور والأرباح.
ولذلك فإنّ من الواضح علمياً: أنّ قانون «العدالة شرط النمو» يقتضي التغيير السياسي الذي يسمح للكادحين بممارسة سلطتهم بشكل فعال وإلا لا يمكن النمو والتقدم.
يجب تفسير الرأسمالية لتغييرها
يقول البعض: إنّ مفهوم أعلى نمو وأعمق عدالة كما طرحه حزبنا يخالف النظرية الماركسية-اللينينية، بدعوى أنّنا من خلاله نؤطّر أنفسنا في الرأسمالية حسب ما يُزعَم، أو نتخلّى عن هدفنا الاستراتيجي وهو الاشتراكية!
هذا الكلام ليس جديداً، ولكن من المفيد التذكير ببعض ما سبق لرفاقنا أن أوضحوه للناس حول عمق المقصود بـ «أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية». ففي فعاليات الندوة الاقتصادية في المجلس الوطني للإعلام، آب، 2013 قال د. قدري جميل: «فأنا الشيوعي قلت: إنني ضد أن توضع كلمة اشتراكي في الدستور، وذلك ليس لأنني ضد الاشتراكية، بل على العكس كوني معها. ففي ظل شعارات الاشتراكية السابقة تم عملياً الذهاب نحو الرأسمالية، واليوم فإن التحليل الاقتصادي الواقعي يقول: إن العلاقات الرأسمالية سادت في البلاد في الفترة التي كنا نرفع فيها شعارات اشتراكية، لذلك ينبغي تسمية الأمور بمسمياتها، وإلا فلا داعي للتسمية. ولكننا في النموذج الجديد صغنا جوهر العملية تحت صيغة (أعمق عدالة وأعلى نمو)، ووضعنا هدف (تأمين الحاجات المتنامية للناس)، وهنا سأكشف أمراً: إن قانون الاشتراكية الأول هو تأمين الحاجات المتنامية».
إذاً «تأمين الحاجات المتنامية للناس» هو القانون الأساسي للاشتراكية، والرفيق ينطلق هنا من أعلى منصة معرفية وصل إليها الثوريون في القرن الماضي، لأنّ هذه الصياغة تحديداً جاءت على لسان الرفيق ستالين في سياق نقاشاته الاقتصادية في فترة متأخرة من حياته «الكلمة الآن للرفيق ستالين» ص238.
وهنا يجدر الذكر بأنّه في عهد ستالين أيضاً جرى جدال مشابه من ناحية أنّ بعض المنظرين في الاتحاد السوفييتي، طرحوا أن يتم إدخال فكرة في مناهج الاقتصادي السياسي الماركسي، تقول بأنّ قانون القيمة في الاقتصاد السياسي للرأسمالية لم يعد يعمل نهائياً، واختفى في المرحلة التي وصلت إليها الاشتراكية آنذاك. ولكن ستالين خالفهم الرأي بذلك على أساس علمي، لأنّه لم يرد أن يتعامى على أنّ قانون القيمة ما زال يعمل في الاشتراكية، حتى ولو بشكل مختلف، أي لم يتعامَ عمّا ما زال «ثابتاً» نسبياً آنذاك، وهذا لا يعني أنه لم يرد تغييره بل بالضبط لأنه أراد تغييره، للانتقال إلى مرحلة أكثر تقدماً في بناء الاشتراكية. وانكشف من خالفوه فيما بعد وزاودوا عليه بأنهم ساروا بنهج خروتشوف، والاستعادة التدريجية للرأسمالية، ولم يحل إنكارهم «الطهراني» لقانون القيمة من أن يعود هذا القانون ليعمل بشكل متزايد بشراسة رأسمالية في مرحلة التراجع حتى التفكك.
وبطهرانية مماثلة يجادل البعض بأنه «لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل العلاقات البرجوازية مهما جرى تلطيفها وضبطها».
وهنا نتذكر موقفاً مشابهاً رد عليه ماركس في نصه «الأجور والأسعار والأرباح» الذي ألقاه بشكل خطاب أمام جلستين للمجلس العام للأممية الأولى، في حزيران عام 1865. وكان التقرير موجهاً مباشرة ضد آراء عضو الأممية ويسطون، والزاعمة أن زيادة الأجور لا يمكنها أن تحسن وضع العمال، وأنه ينبغي بالتالي اعتبار نشاط النقابات ضاراً، وفي الوقت نفسه سدد التقرير ضربة إلى البرودونيين وكذلك اللاساليين الذين كانوا يقفون موقفاً سلبياً من نضال العمال الاقتصادي والنقابات. وفي رسالة إلى إنجلس في 20 أيار 1865، يشير ماركس إلى ذلك كما يلي: «هذا المساء انعقدت جلسة خاصة للأممية. أحد الزملاء القدامى الجيِّدين، والأوينيّ القديم ويسطون (نجَّار) تقدَّمَ بالاقتراحين التاليين، وهو يدافع عنهما باستمرار حيثما تواجد في مكان حاشد: (1) أنّ ارتفاعاً عاماً في معدل الأجور لن يكون مفيداً للعمال. (2) وبالتالي...إلخ، النقابات لها تأثير ضار. لو حدث أنْ قُبِلَتْ هاتان الموضوعتان، واللتان لا يؤمن بهما في جمعيتنا إلا هو وحده، فسوف نتحول إلى مهزلة سواء بالنسبة للنقابات هنا، أو بالنسبة إلى عدوى الإضرابات المنتشرة الآن على نطاق القارة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 986