التصويت والتوافق... الدستور والهوية الوطنية
سعد صائب سعد صائب

التصويت والتوافق... الدستور والهوية الوطنية

يبدو أن موعد الجولة الرابعة للجنة الدستورية السورية معلّقٌ في الهواء حتى اللحظة، أو ربما الأدق أن نقول: إنّه معلقٌ بأهواء المتحكمين باقتراح جدول الأعمال وقول: نعم أو لا، إجابة على اقتراحات جدول الأعمال.

بكل الأحوال، فقد بات واضحاً أنّ عقلية التعطيل هي السائدة لدى هؤلاء، والذين لن يتمكنوا من الاستمرار بالآلية نفسها وقتاً طويلاً... لكن مع ذلك، تنتصب أمامنا مشكلة أخرى تحتاج هي الأخرى إلى حلول...

«تعيين» و«انتخاب»

يُفترض بالأطر المختلفة التي تجري ضمنها ومن خلالها العملية السياسية حتى الآن، أنها تمثل الشعب السوري أو أقساماً عريضة منه. ولكن واقع الأمور بعيد عن أن يكون كذلك؛ فأول مشكلة في التمثيل هي تغييب قوى سياسية بشكل قسري عن العملية، وإذا كان الحديث عن تغييب قوى في الشمال الشرقي هو الأوضح في المرحلة الحالية، فإنه ليس التغييب الوحيد بالتأكيد.
المشكلة الثانية: هي التناسب في التمثيل ضمن الأجسام نفسها؛ فمن جهة النظام، من المفترض نظرياً، (وحتى إذا قبلنا بالتقسيم الشكلي بين مؤيدين ومعارضين)، هو أن يكون الفاعلون من جهة النظام ضمن العملية السياسية ممثلين لـ«المؤيدين»، لكن واقع الأمور هو أنّ هؤلاء الفاعلين يمثلون «المؤيدين» بقدر ما تمثلهم الحكومة المعينة تعييناً...
لجهة المعارضة، فإنّ التناسبات العددية بين المنصات والقوى السياسية المنخرطة في العملية، هي تناسبات فرضتها إلى حد بعيد، مجريات إقليمية ودولية تطورت من خلالها المسألة السورية بأسرها... وأياً يكن الأمر، فالأكيد والواضح أنّ هذه الأجسام لم تنتخب انتخاباً، ولذا فوجود عدد من الممثلين لجهة سياسية ما، أكبر من عدد ممثلي جهة سياسية أخرى ضمن تركيبات أجسام المعارضة، هو أمر لا علاقة له على الإطلاق، لا بالأوزان الحقيقية لهذه القوى، وقطعاً لا علاقة له بمدى تمثيلها للسوريين.

«الأكثرية» تصوّت!

إذا كان كل ما سبق هو من البدهيات الواضحة أمام كل الناس، فإنّ إعادة التذكير بها، إنما يستهدف تعرية الكلام عديم المعنى عن «أكثريات» و«أقليات» ضمن أجسام المعارضة، والذي يُقصد منه أن يتم تغليب رأي «الأكثرية» عبر «التصويت»!
إذ يتضمن استخدام تعبيرات «الأكثرية» و«الأقلية» و«التصويت» افتراضاً وهمياً بأنّ هؤلاء وأولئك هم أشخاص منتخبون، وحين يصوتون فهم يصوتون باسم منتخبيهم... وهذا أمر لا أساس له البتة ضمن الأجسام القائمة حالياً.
لذلك، تتحول هذه التعبيرات إلى مسوخٍ يجري اللعب بها لتمرير الاتجاهات التي تسعى إلى فرضها الجهات المفروضة هي نفسها على السوريين بوصفها ممثلاً لهم... بل وحين تعجز عن تجميع «أكثرية» عددية شكلية، لا تتورع عن القفز فوقها ومخالفة الأنظمة الداخلية وصولاً إلى فرض ما تريده، والأمثلة على ذلك لا تكاد تنتهي.

أمر واقع

إذا كان لا بدّ من القبول جزئياً بالمستوى التمثيلي القائم، مع ضرورة حاسمة لتصحيح التوازنات ضمنه قدر الإمكان، بوصفه حداً أدنى مؤقتاً يكفي للانطلاق بالعملية السياسية وصولاً إلى وضع يقرر السوريون فيه من يمثلهم فعلاً، وبأي نسب، فإنّ من الضرورة بمكان أن يتم أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار في المسألة الدستورية بشكل خاص...

التوافق

نسبة التصويت المرجِح التي جرى إقرارها حين تشكيل اللجنة الدستورية، أي: نسبة 75%، إنما بنيت في جوهرها على هذه الحقيقة... ورغم أنّ المتشددين في الطرفين يحاولون استخدام هذه النسبة العالية بوصفها أداة للتعطيل، وربما قد نجحوا في ذلك حتى الآن، إلا أنّ الجانب الإيجابي لهذه النسبة المرتفعة سيتحول إلى الجانب السائد ضمن العملية حين لا يعود لدى المتشددين قدرة على الاستمرار في التعطيل.
المقصود من النسبة العالية هذه، هو أنّ أعضاء اللجنة الدستورية، وبما يمثلونه بمجموعهم من السوريين، ينبغي عليهم أن يصلوا إلى صياغات دستورية مبنية على التوافق لا على التصويت... بهذه الطريقة فقط يمكن حل مسائل معقدة وإشكالية من النمط الذي يحاول المتشددون إلقاءه على الطاولة لتفجير العملية بأسرها...
من أمثلة هذه القضايا «الإشكالية»، تلك المسائل المتعلقة ببعض جوانب الهوية العامة للدولة... مثل: العروبة والمسائل القومية، مصادر التشريع، دين رئيس الدولة، وغيرها. وهي مسائل مهمة لا شك، ولكنها ليست الأكثر أهمية برأينا؛ فهنالك السلطات الثلاث والعلاقة بينها وتوزيع الصلاحيات، وهنالك مسائل المركزية واللامركزية، والمسائل المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والديمقراطية... هذه كلها مسائل جوهرية يجري العمل على تأجيلها إلى ما لا نهاية لحساب نقاش بيزنطي مقصود منه عدم الوصول إلى نتائج في المسائل «الإشكالية»، والتي ينبغي أن تناقش بطبيعة الحال، ولكن ليس بوصفها شروطاً مسبقة كما يجري حتى الآن.

التوافق مرة أخرى

من المعروف في حالة الأزمات الوطنية الكبرى، أنه يجري عادة تشكيل حكومات وحدة وطنية، بمعنى حكومات تضم جنباً إلى جنب «الأكثرية» الانتخابية، و«الأقلية» الانتخابية، ودون اعتبار للتناسبات بينهما، وذلك لتوحيد الشعب المعني إلى أقصى الحدود الممكنة لمواجهة الأزمات.
تعكس هذه الفكرة قناعة بأنّ الأزمات الكبرى تكشف زيف «الأكثريات» و«الأقليات» من جهة، وتتطلب تكافل وتضامن الممثلين المختلفين، بغض النظر عن نسبة تمثيلهم. فكيف يكون الحال حين تكون هذه «الأكثريات» وهذه «الأقليات» غير منتخبة من الأساس؟
المسألة بوضوح، هي أنّ كل التركيبات القائمة، ونسب تمثيلها في العملية القائمة، هي تركيبات مؤقتة ينبغي أن يكون هدفها هو العبور بالبلاد إلى ضفة الأمان، وعند أول انتخابات حقيقية، يمكن لكل طرف أن يقول: إنه يمثل نسبة كذا من السوريين... قبل ذلك فهي ادعاءات لا قيمة لها، وليست أكثر من عمليات استعراض بقصد المناكفة السياسية... ولذلك، فإنّ مسألة التوافق في مختلف القضايا، والإشكالية منها بالذات، هي مسألة حاسمة في نقل البلاد إلى بر الأمان، وفي تمكين الشعب السوري من تقرير مصيره بنفسه عبر تطبيق كامل وشامل للقرار 2254...

معلومات إضافية

العدد رقم:
986
آخر تعديل على الإثنين, 05 تشرين1/أكتوير 2020 17:26