شرق المتوسط والانتقال بين مرحلتين..
سعد خطار سعد خطار

شرق المتوسط والانتقال بين مرحلتين..

رغم المحاولات التي يجري بذلها من أطرافٍ دولية عدّة لتهدئة التصعيد المستمر في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط​، تستمر الأزمة في التفاقم على نحوٍ يُهدد المصالح العميقة لدول المنطقة دولاً وشعوباً.

رداً على «المسح الزلزالي» الذي أجرته سفينة الأبحاث التركية «Oruc Reis» في منطقةٍ تطالب بها اليونان أيضاً، بدأ الاتحاد الأوروبي في التحضير لعقوباتٍ واسعة ضد تركيا «بسبب جهودها في التنقيب عن الغاز في منطقة متنازع عليها في شرق البحر المتوسط».
و​​في حال عدم إمكانية حل النزاع بالوسائل الدبلوماسية، قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل: «سيبدأ الاتحاد الأوروبي في تجهيز قائمة بالعقوبات المحتملة التي يمكن أن توجه إلى الأفراد، ولكن يمكن توسيعها لتشمل الأصول والسفن، بالإضافة إلى تقييد وصول تركيا إلى الموانئ والتجهيزات الأوروبية».

خلفية التصعيد

تجري قيادة «الناتو» وكبار المسؤولين في الدول المشاركة في النزاع محادثات هاتفية منتظمة لمناقشة التوترات الحالية في المنطقة، في وقتٍ تواصل فيه أنقرة خططها الاستكشافية في شرق البحر الأبيض المتوسط، مؤكدة أنها عازمة على الاستفادة من أية موارد تنتمي، من وجهة نظر القيادة التركية، لأنقرة في البحر الأبيض المتوسط ​​وبحر إيجه والبحر الأسود.
وفي الآونة الأخيرة، بدأت فرنسا تلعب دوراً نشطاً بشكل متزايد في الصراع مع تركيا، خاصة بعد اندلاع التوترات بين البلدين بسبب الحرب في ليبيا، وبعض التوترات العسكرية بين سفن حربية فرنسية وتركية في البحر المتوسط مؤخراً. كما اشتدت الخلافات بين الجانبين بعد أن قررت فرنسا الانضمام إلى تدريبات عسكرية مع إيطاليا واليونان وقبرص في شرق المتوسط.
وزاد في تعقيد الوضع مصادقة البرلمان اليوناني في السابع والعشرين من آب الماضي على اتفاقية بحرية وقعتها اليونان مع مصر في وقت سابق، لتحديد الحدود البحرية بين الجانبين. وأثار الاتفاق غضب تركيا «لأنه ينتهك الجرف القاري ويتداخل أيضاً مع المناطق البحرية التي اتفقت عليها تركيا مع ليبيا مؤخراً»، حيث ترسم هذه الاتفاقية أيضاً الحدود البحرية لإيطاليا واليونان، وتؤكد حقوق الصيد للجزر اليونانية في البحر الأيوني (هو الجزء من البحر المتوسط الذي يفصل اليونان عن إيطاليا). وأشار المتحدث باسم الحكومة اليونانية، ستيليوس بيتساس، إلى أن التصديق كان مستعجلاً «نظراً لأنشطة تركيا غير القانونية».

إطفاء الحرائق

حتى الآن، لا تزال معظم التحليلات حول أسباب التصعيد في شرق المتوسط تعود إما للأهمية الجيوسياسية الكبيرة للمنطقة، وإما للموارد الكبيرة التي يتم الحديث عن وجودها في هذا الحيز الجغرافي، إلا أنه نادراً ما يجري تسليط الضوء على عنصر بالغ الأهمية في التحكم بعملية التصعيد الجارية، وهو أن هذا التصعيد إنما يجري في ظل انسحابٍ سريع للولايات المتحدة من المنطقة، مما يُنمّي الرغبة لدى مجموعة واسعة من دول المنطقة لمحاولة تحصيل أكبر قدر ممكن من النفوذ فيها، وهو ما يساهم في طبيعة الأحوال بدفع دول المنطقة إلى تشكيل تحالفات وتكتلات لمواجهة بعضها بعضاً. (في مقابل اليونان وفرنسا وقبرص، تحاول تركيا مؤخراً خلق نوع من التكتل مع أذربيجان وأوكرانيا وجورجيا).
وفي انسحابها السريع هذا، تحاول الولايات المتحدة خلط الأوراق في منطقة شرق المتوسط، بهدف تصعيد الفوضى بين دولها إلى الحد الذي يسمح بعرقلة الحضور القوي للمشاريع الأخرى المرتبطة بالقوى الدولية الصاعدة، حيث يسمح هذا النوع من الفوضى للولايات المتحدة التي تضطر إلى تركيز قواها اليوم أكثر على شرق آسيا والداخل الأمريكي بأن تسير الأمور في المنطقة كما لو كان الأمريكي حاضراً فيها، وأن تدفع دول المنطقة للانتظار طويلاً قبل أن ترى ثمار المشاريع الواعدة على غرار مبادرة «الحزام والطريق» والمشروع الأوراسي.
وفي مقابل هذه المحاولة الأمريكية، يبدو واضحاً نهج القوى الصاعدة في التعاطي مع مسألة التصعيد في المنطقة، حيث لا تزال تسير في استراتيجية إطفاء الحرائق، ودفع الخلافات والتباينات بين الدول للحل عبر الحوار فيما بينها. وفي هذا الإطار، لا بد من تسليط الضوء على التجربة التي خاضتها الدول الصاعدة، الصين وروسيا تحديداً، ضد مشروع الفوضى الأمريكي في قطاعات واسعة من آسيا، حيث تركزت الجهود الصينية الروسية المشتركة على الدفع في اتجاه الحلول السياسية من جهة، وعلى تشكيل التحالفات والتكتلات السياسية والاقتصادية الجامعة لدول المنطقة، مما يساهم في جعل أية مسألة خلافية بين دولتين أو أكثر من دول المنطقة مسألة يمكن حلها تحت المظلات الإقليمية المتعددة، التي يجري إنشاؤها بهدف إبعاد اليد الأمريكية عن العبث بأمن المنطقة وشعوبها، ومنع محاولات تهديد تخوم الصين وروسيا من خلال العمل الغربي على خلق بؤر التوتر حولهما.
على هذا النحو، وجدت دول آسيا طريقها لخلق أرضية لتنظيم عدد كبير من الخلافات البينية، ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال تحاول عرقلة هذه الجهود عبر مواصلة تأليب الدول بعضها على بعض، لكن هذه الأرضية المتمثلة اليوم في منظمة شنغهاي للتعاون والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فضلاً عن العديد من المبادرات الاقتصادية الجزئية التي تقودها الصين وروسيا، لا تزال تثبت فعاليتها في كبح جماح واشنطن، مما يسمح بالقول إن لدى القوى الصاعدة القدرة على إيجاد تجربة مماثلة في شرق المتوسط، تضع حداً لمشروع الفوضى فيها وتدفعها نحو الانتقال من العالم القديم الذي تزعمته الولايات المتحدة، إلى العالم الجديد بأقل قدر ممكن من الخسارات التي يمكن تجنبها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
982
آخر تعديل على الإثنين, 07 أيلول/سبتمبر 2020 13:24