«ليسقط مشعلو الحروب»!
سعد صائب سعد صائب

«ليسقط مشعلو الحروب»!

يزداد التوتر في شرق المتوسط وتزداد مؤشرات احتمالات صدام عسكري... التوتر التركي- اليوناني الذي وصل إلى تخوم الحرب هو أحد أكثر المؤشرات دلالة على ذلك، ولكنه ليس الوحيد.

وإذا كان التركيز الإعلامي في موضوع تركيا واليونان، يحاول تقديم صورة مصغرة ومبسطة عن نزاع مصالح وحدود بين دولتين متجاورتين يجمعهما تاريخ طويل من العداء، فإنّ ذلك كلّه، ورغم صحة أقسام كبيرة منه، ينبغي ألا يصرف انتباهنا عن الصورة الأوسع؛ فمنذ مطلع القرن العشرين لم يعد ممكناً تحليل وقراءة أية ظاهرة إقليمية بل وحتى محلية، دون فهم خلفياتها الدولية... فكثير من المحللين يحلو لهم تكرار عبارة «العالم أصبح قرية صغيرة» بمناسبة ودون مناسبة، ولكنهم فجأة ينسونها وينخرطون في تحليلات سياسية مبنية على «التعصب القومي الضيق»..

أزمة مركبة

تعيش المنظومة الإمبريالية العالمية أزمة عميقة ومركبة، داخلية وخارجية؛ داخلية: ضمنها وفيما بين مكوناتها، وخارجية مع العالم الآخر (الصاعد).
وإذا كانت احتمالات صدام كوني بين الكبار كما حصل سابقاً، وفي الحرب العالمية الثانية خصوصاً، هي احتمالات ضعيفة اليوم، بسبب التوازنات المستجدة بصعود قطب جديد نواته روسية- صينية، ولأن الكل مدجج حتى أسنانه بالسلاح النووي، فإن ذلك يفسح المجال للصدامات الأخرى- داخلها.
تأخذ هذا الصدامات منحى اجتماعياً- سياسياً بالدرجة الأولى، أي منحى الصدام مع الشعوب الغربية، وهذا ما نشهد أشكاله المختلفة خلال العقدين الماضيين في أوروبا والولايات المتحدة عبر الحراكات الشعبية.
الصدامات والتناقضات الداخلية ضمن المنظومة الإمبريالية، تأخذ أيضاً شكل الصدامات والتناقضات فيما بين مكوناتها ودولها، وهذا النوع من الصدامات يزداد ويشتد يوماً بعد يوم... يمكننا أن نذكر في السياق: (بريكست والتناقضات البريطانية الأوروبية، التناقضات بين الدول الأوروبية نفسها على مستوى شمال وجنوب، وبين بلدان الشمال، التناقضات بين أوروبا ككل والولايات المتحدة، بين الولايات المتحدة ونيوزيلاندا وأستراليا واليابان وتركيا والخليج العربي... إلخ).

شرق المتوسط غرب الجحيم

يمثل شرق المتوسط اليوم أبرز ساحات الصدامات الداخلية للمنظومة الإمبريالية، ولهذا الأمر أسبابه العميقة فيما نعتقد.
ليست المسألة محصورة بظننا في مسألة مصادر الطاقة وخطوطها كما اعتادت القول معظم التحليلات الخاصة بالموضوع، وليست متمحورة أيضاً حول الأهمية الاستثنائية بالمعنى الجيوسياسي لشرق المتوسط، رغم عدم إنكارنا لأهمية هذين الجانبين، بل وإسهامهما العميق في المسألة ككل، لكنهما ليسا العاملين الأكثر أهمية فيما نعتقد...
تكمن المسألة في أن ما يمكن أن نسميه السوبر إمبريالية التاريخية التقليدية (الأمريكية الإنجليزية الفرنسية إلخ)، مجبرة موضوعياً، في وضع الوهن المتعاظم الذي تعيشه، على التراجع السريع وصولاً إلى الانسحاب من مناطق عديدة حول العالم، وفي مقدمة تلك المناطق منطقة شرق المتوسط، وخاصة بسبب احتدام الصراع حولها مع القطب الآخر الروسي الصيني... وبسبب اضطرار المتراجع إلى إعادة ترتيب وإعادة موضعة قواه المتناقصة حول العالم، وتركيزها في المناطق التي يعتبرها أشد خطراً... بشكل خاص إعادة التموضع الأمريكي باتجاه تركيز الوجود على تخوم الصين وفي بحرها بشكل خاص.
ولأنّ عمليات الانسحاب اضطرارية بمعظمها، ولا مفر منها من وجهة نظر القوى (السوبر إمبريالية)، فإنها تسعى إلى إدارتها بحيث تخلق وراءها فراغات عديدة في تناسبات القوى بين الدول الموجودة في المناطق التي تنسحب منها، والتي كانت أوضاعها بمعنى النفوذ مستقرة على قياسات التوازنات الدولية السابقة لعقود طويلة...
الوجود «السوبر إمبريالي» المباشر في شرق المتوسط خلال عقود طويلة متتالية، ورغم أنه أدار حدود نفوذ كل دولة من الدول في المنطقة، إلا أنّه أدارها وفقاً لمصالحه دائماً وبغض النظر عن الأوزان الموضوعية لهذه الدول وتحولاتها عبر هذه الفترة الطويلة.
ما أقصده هو أنّ دولاً حازت نفوذاً أكبر من قواها الفعلية، وأخرى حازت نفوذاً أقل، وبالانسحاب السريع لموزع الأوراق من الطاولة، فإنه يدفع نحو حالة إرباك عامة ورغبة لدى كل طرف في السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأوراق، وبأسرع وقت.

ميني إمبرياليات

وإذا كنا قد استخدمنا على سبيل الاصطلاح تعبير القوى «السوبر إمبريالية»، فإننا نقصد ضمناً أنّ هنالك عدداً غير قليل من الدول المنتمية للمعسكر الغربي، والمتناقضة الآن شرق المتوسط، هي أيضاً دول إمبريالية، ولكن «ميني». على الأقل، يمكننا ببساطة أن نجد المعايير الخمسة الكلاسيكية التي وضعها لينين لتوصيف الإمبريالية، متحققة في هذه الدول؛ (وهي بشكل مختصر: 1- الاحتكار. 2- رأس المال المالي. 3- تصدير رأس المال. 4- التقاسم وإعادة التقاسم بين الاحتكارات العالمية. 5- التقسيم وإعادة التقسيم للنفوذ الإقليمي بين الدول).
وإذا كنا نتفق مع القول بأنّ تعريف الإمبريالية في الوقت الراهن بات أكثر تعقيداً مما كان عليه أيام لينين، إلا أنّنا نرى أيضاً أن تعريف لينين ما يزال صحيحاً تماماً من حيث جوهره... ما اختلف هو أشكال التجلي.

«فوضى خلاقة نسخة2»

بهذا المعنى، يمكننا القول: إنّ السوبر إمبرياليات، وبعد فشلها في الوصول بمشروع الفوضى الخلاقة إلى نهاياته المطلوبة، تحاول الآن أن تستثمر في عجزها وانسحابها الاضطراري لتوليد نسخة «جديدة» من هذا المشروع... فإذا كانت النسخة السابقة معتمدة على أدوات الفوالق الطائفية والقومية والدينية ضمن الدول نفسها، وضمناً على الأدوات الإرهابية، فإنها في نسختها «الجديدة» تتمركز على تشجيع التعصب القومي والمصالح الضيقة للميني إمبرياليات، لكي تخوض فيما بينها حروباً طاحنة على مستوى الدول.
حروب كهذه من شأنها أن تحقق أمرين معاً؛ أولاً: تملأ فراغ انسحاب السوبر إمبرياليات بالفوضى والدمار، وتمنع بذلك لسنوات طويلة أية إمكانات فعلية لاستثمار القوى الصاعدة لتفوقها الاقتصادي وتثبيته على أسس من عمليات الإعمار الشامل والتعاون الشامل عبر الحزام والطريق والمشروع الأوراسي. ثانياً: حروب كهذه، وبتنميتها للتعصب القومي ضمن كل بلد على حدة، تُنحي- إلى مرتبة ثانية- الصراع الاقتصادي- الاجتماعي الناضج للحل، وتوحد المجتمع ضمن الدولة توحيداً وهمياً يصب في مصلحة الناهبين الكبار، ويقدم عموم الناس دماءهم على مذبحه...

ليسقط مشعلو الحروب

وصفنا «الفوضى الخلاقة النسخة2» بأنها «جديدة» بين قوسين، لأنها ليست جديدة تماماً، بل هي تكرار بطريقة أو بأخرى لسيناريو الحرب العالمية الأولى الذي استند إلى العمى والجشع القومي المتعصب الذي أججته الاحتكارات الكبرى لتستخدم الشعوب المذبوحة بالحرب لإعادة تقاسم النفوذ والثروات والاحتكارات فيما بينها.
والآن تجري محاولة لحرف نضال الشعوب مرة أخرى بعيداً عن الهدف والمهمة الأساسية في القضاء على منظومة الإجرام والنهب الدولي، المنظومة الإمبريالية، نحو صراعات بينية مدمّرة...
بين الحربين العالميتين، رفعت القوى التقدمية حول العالم شعار «ليسقط مشعلو الحروب»، وبذلت قصارى جهودها لمنع وقوع الحرب العالمية الثانية، ولكنها لم تتمكن من إسقاط مشعلي الحروب إلى عبر نار الحرب نفسها...
نعيش اليوم أمام فرصة تاريخية حقيقية بأنّ يتم إسقاط مشعلي الحروب عبر منعهم وردعهم عن الدفع باتجاه الحرب، فكما استطاعت القوى الصاعدة حتى الآن تطويق الحرائق الإمبريالية المتنقلة ومنعها من الانتشار، ومن ثم إطفاؤها تدريجياً، فإنّها مرشحة الآن لردع السوبر إمبرياليات عن اللعب بنار الحروب بين الميني إمبرياليات...
العمل لإسقاط مشعلي الحروب بات اليوم هو المهمة رقم 1 بالمعنى الإنساني، والذي يكافئه شعار تكريس الحلول السياسية.. وهو الأمر الذي لا بديل عنه لفتح الطريق أمام مستقبل جديد للبشرية جمعاء...
فلاشة: السوبر إمبرياليات بعد فشلها في الوصول بمشروع الفوضى الخلاقة إلى نهاياته المطلوبة تحاول الآن أن تستثمر في عجزها وانسحابها الاضطراري لتوليد نسخة «جديدة» من هذا المشروع

معلومات إضافية

العدد رقم:
981
آخر تعديل على الإثنين, 31 آب/أغسطس 2020 13:10