مرآتان للهوية الوطنية السورية
انتهت يوم السبت الماضي الجولة الثالثة من أعمال اللجنة الدستورية السورية في جنيف، ولا يبدو أنها أنتجت شيئاً جديداً مقارنة بسابقتيها. ولن أناقش هنا مدى جدوى هذه اللجنة، أو بشكل أدق نسبة إسهامها المتوقعة في العملية السياسية ككل؛ ليس ذلك هرباً من إشكالية الموضوع وتضارب الآراء حوله، ولكن ببساطة، لأنني أنا نفسي لا أملك رأياً جازماً حول هل ستساهم هذه اللجنة فعلاً في خروج السوريين من أزمتهم أم لا.؟ مع أني آمل ذلك.
ما سأناقشه هو الفكرة التي «قيل» إنها كانت محور أعمال هذه الجولة، أي فكرة الهوية الوطنية السورية. (واستخدمت «قيل»، لأنّ المباحثات سرية، وليس من سبيلٍ للتثبت مما جرى بحثه فعلياً! وهذا بحد ذاته أمر عجيب؛ فمسألة الدستور تخص مستقبل السوريين جميعهم، فلماذا لا نستمع عبر نقل حي ومباشر إلى ما يقوله «ممثلونا الافتراضيون» حول مستقبلنا ومستقبل بلادنا؟!).
أياً يكن الأمر، فإنّ نقاش مسألة الهوية الوطنية السورية، هو أمر ضروري بعد كل ما مررنا به، سواء كان النقاش سيؤتي ثماره في هذه اللحظة عبر اللجنة الدستورية، أو في لحظة ما لاحقة.
سجال متوقع
لنقاش هذا الموضوع، أعتقد أنه من المفيد أن نقسمه إلى مستويين، سأصطلح لتسميتهما، المستوى الأول، الإيديولوجي، والمستوى الثاني، الانتماء.
ضمن المستوى الأول، يمكننا أن نتوقع اتفاقاً سهلاً على قضية أساسية هي عداء سورية والسوريين للكيان «الإسرائيلي» ومناصرتهم للقضية الفلسطينية، ولكن يمكن أيضاً أن نتوقع جدالاً طويلاً حول مجموعة مسائل: 1- ما هو موقع العروبة من الهوية الوطنية السورية؟ بما في ذلك اسم الجمهورية واسم جيشها وإلخ. 2- ماذا عن القوميات الأخرى؟ لغاتها، حقوقها الثقافية وإلخ. 3- ماذا عن الدين الإسلامي وموقعه؟ ماذا عن الأديان الأخرى؟ ماذا عن الطوائف؟ ماذا عن الآراء العلمانية؟
أعلم أنّ هذه القضايا إشكالية إلى حدٍ بعيد؛ إذ يمكن بسهولة لمن يريد أن يحوّل النقاش إلى سجال عقيم أن يتكئ إليها، ولست من الخبرة والمعرفة بما يكفي لتقديم حلول ومخارج، ولكن مع ذلك فإنّ رأيي يُختصر بنقطتين: 1- نحتاج إلى صياغات دستورية تعترف بواقع انتماء سورية إلى فضاء ثقافي هو الفضاء العربي- الإسلامي، ولكن في الوقت نفسه، تعترف بتعددية المجتمع السوري وغناه، سواء على الصعيد القومي أو الديني أو الثقافي، بما يضمن مواطنة متساوية بشكل فعلي، لا يشوبها أي نوع من أنواع التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الطائفة. 2- نحتاج إلى الابتعاد عن فرض الصيغ الإيديولوجية الجاهزة كهوية للدولة، وأقصد بذلك الابتعاد عن الصياغات التي تحشر سورية استباقياً ضمن فكرٍ قومي أو ديني أو طبقي محدد «رأسمالي أو اشتراكي».
المستوى الأهم
رغم أن غباراً كثيفاً، ومتوقعاً، أثير وربما يثار لاحقاً حول المستوى السابق الذكر، فما أعتقده أنه ليس هو المستوى الأهم...
الهوية الوطنية السورية، وإنْ كانت تعني في جانب من جوانبها، هويتنا كسوريين مقابل الآخر/ غير السوري، إلا أنها تعني أيضاً هويتنا كسوريين ينتمون إلى دولة لها رقعة محددة من الأرض، ولها مؤسساتها وقوانينها وتراثها وتاريخها وثقافتها ورموزها...
بكلام آخر، فللهوية الوطنية جانبان أساسيان؛ هويتنا كسوريين وكدولة سورية في مرآة غير السوريين والدول الأخرى، وهويتنا كسوريين اتجاه دولتنا نفسها، انتماؤنا إلى هذه الدولة، إلى هذا الوطن... أي نحن كمجتمع أمام مرآتنا «الشخصية».
وإذا كان من الواضح أنّ هنالك تقاطعات عديدة بين المستويين، (في الحديث مثلاً عن المواطنة المتساوية)، فإنّ لمستوى الانتماء أهمية خاصة، بالدرجة الأولى لأنه لا يولى الاهتمام الكافي عادة؛ حيث تشهد تجارب كتابة الدساتير بعد الأزمات، (مصر وتونس والسودان مثالاً)، أنّ القسم الأكبر من النقاش قد انصرف إلى الجانب الأول الذي أسميناه بالإيديولوجي، في حين لم تشهد الدساتير الجديدة نقلات نوعية عن سابقاتها بما يخص الجانب الثاني: الانتماء.
واجبات، ولكن حقوق أيضاً!
كي لا يبقى الكلام عائماً، فما أقصده بالانتماء في هذا السياق، هو مجموع الآليات والقوانين والنصوص الدستورية التي تضمن للمواطن القاعدة المادية والروحية للانتماء إلى الوطن، بوصف ذلك الانتماء منظومة حقوق وواجبات، وليس واجبات فقط... فالانتماء إلى الوطن، وعبر القسم الأكبر من عمر الدولة السورية بشكلها الحديث، وبالنسبة للقسم الأعظم من السوريين، كان دائماً مكافئاً للتضحية وللشقاء وللأفواه المكمّة وللحريات السياسية المعدومة أو شديدة التدني، وللصراع اليومي المستمر لتأمين سبل العيش الكريم، من استطاع إليه سبيلاً...
بهذا المعنى، فإنّ الأبواب الدستورية المتعلقة بالحقوق السياسية والديمقراطية والاقتصادية والتعليمية والثقافية، هي أيضاً أبواب لتثبيت الهوية الوطنية السورية، ولا يقتصر الأمر على العناوين العريضة التي عادة ما ترد في مقدمات الدساتير. وضمن هذه الأبواب المختلفة، ينبغي البحث عن أكبر قدر من الضمانات التي تحقق مبدأ سيادة الشعب بشكل عملي، وليس كشعار عام فحسب...
مفردات عديدة
ضمن المفردات المعنية ببلورة الهوية الوطنية السورية، أي ببلورة انتماء السوريين إلى بلدهم، المبادئ والقوانين الدستورية التي تضمن سيادتهم وقدرتهم على ممارسة السلطة بشكل فعلي؛ وهذا لا يختصر بما يسمى الحريات السياسية فحسب، بل يمتد أبعد من ذلك إلى طبيعة الانتخابات في الدولة، وطبيعة العلاقة بين السلطات الثلاث، وتوزيع الصلاحيات بينها، وكذلك يمتد إلى طبيعة العلاقة وتوزيع الصلاحيات بين المركز والأطراف...
تحويل الهوية الوطنية السورية من مجرد شعار للمشاغلة أو للتجارة إلى مسألة ملموسة ومرتبطة بمفهوم الانتماء إلى الوطن، هو عملية تحتاج إلى نقاش الدستور القادم بأكمله، انطلاقاً من مبدأ السلطة للشعب، وبكل مفردات وتفاصيل هذه السلطة...
الهوية الوطنية تتطلب البحث عميقاً في كيف تكون سورية وطناً يحضن أبناءه، ويقدم لهم عيشاً كريماً وتعليماً متقدماً وصحة وافرة وحريات سياسية حقيقية ومساحات للأحلام الجميلة... ومساحات لتحقيقها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 981