الميل الشعبي الطبيعي لمقاومة الأمريكي، ومحاولات استغلاله!
يتعرض الاحتلال الأمريكي في شمال شرق سورية خلال الأشهر الماضية إلى ضغوط متزايدة تهدف إلى طرده من البلاد... من ذلك ما نراه من دعوات صريحة للعمل ضد الاحتلال، وأهم من ذلك ما نراه من أفعال مباشرة على الأرض، وإن كانت حتى اللحظة أفعالاً محدودة.
إذا تركنا مؤقتاً، الوجه السياسي، الإقليمي والدولي للمسألة، وركزنا على الجانب الداخلي لها، فإنّنا سنقف أمام جملة من المؤشرات شديدة التنوع وشديدة التناقض، والتي تحتاج إلى الوقوف عندها ملياً لمحاولة فهمها. وسنبدأ بتوصيف مقتضب لوضع محافظة دير الزور التي تدور على أرضها أقسام مهمة من الأحداث التي نناقشها.
في دير الزور
تتوزع المساحة الإدارية لمحافظة دير الزور شرق وغرب نهر الفرات، وهو الأمر الذي أنتج في الظروف الحالية وجودها بين سيطرتين مباشرتين مختلفتين على الأرض؛ ففي حين تقع مدينة دير الزور ومنطقة الميادين وبقرص والقورية والعشارة وجزء من البوكمال تحت سيطرة النظام السوري، تقع أجزاء من البوكمال وكذلك البصيرة وشحيل ورقيب والبوحمام وغيرها ضمن القسم الذي توجد فيه قوات سورية الديمقراطية ويتمتع فيها الاحتلال الأمريكي بالنفوذ الأساسي.
الواقع المعقد هذا، دفع سكان المنطقة إلى البحث عن أشكال من التفاهم مع السلطات القائمة في مناطقهم، وأنتج في أحيانٍ كثيرة، محاولات لتعليب رغبات سكان المنطقة ضمن الاتجاهات العامة التي تخدم مصالح المسيطرين. ولكنْ ما بات واضحاً هو أنّ مختلف أنواع التفاهمات القائمة، ليست أكثر من تفاهمات هشة ومؤقتة، شأنها شأن الوضع المؤقت الذي يحكم المنطقة بأسرها.
اتجاهان وثلاثة طروحات
ضمن عملية الفرز الضرورية للفهم، ينبغي أن ننتقل من الطروحات العامة الخاصة بالمقاومة إلى الطروحات التفصيلية.
قبل ذلك، لا بد من تثبيت أن هنالك أمراً واقعاً وعملاً واقعياً باتجاه مقاومة الأمريكي، وهذا ينبع من السوريين العاديين وليس حكراً على عرب أو كرد أو أي مكون من المكونات السورية، بل يمتد عميقاً لدى كل سكان المنطقة.
الاتجاه الأول (بداءات مقاومة فعلية)
تندرج ضمن هذا الاتجاه، الأعمال الفعلية التي تسعى لمقاومة الأمريكي، سواء كانت أعمالاً على الأرض، أو كانت طروحات سياسية منطلقة من السوريين العاديين بقومياتهم المختلفة.
الاتجاه الثاني (تخريب باسم المقاومة)
تندرج ضمن هذا الاتجاه طروحات تصدر من جهات متناقضة شكلياً، ولكنها تأتي منسجمة في الأهداف والغايات. ما نقصده بشكل واضح هو الطرحان التاليان:
- طرح قادم من جهة متشددين في «الموالاة» يحاولون تحريض العشائر العربية على «مقاومة الأمريكي» ولكن ليس عبر استهدافه، بل عبر الدخول في اقتتال مباشر مع قسد.
- طرح قادم من جهة متشددين في «المعارضة» من طراز الائتلاف، على لسان رئيسه الحالي نصر الحريري، وكذلك عبر النشاط المستجد لرياض حجاب، وكلاهما يطلبان من الأمريكي، كلٌ بطريقته، أنْ يستلم (الائتلاف/ العشائر) السيطرة على منطقة الشمال الشرقي من يد قسد، وأن يتم الاستلام تحت الرعاية الأمريكية! ويدعون في سياق ذلك أيضاً إلى الاقتتال مع قسد.
الطرحان السابقان، يشكلان معاً اتجاهاً واحداً بالمعنى العملي، وكلاهما لا يستهدف مقاومة الأمريكي، بل على العكس تماماً يخدم الأجندة الواضحة للأمريكي في الدفع باتجاه حرب واقتتال على أساس قومي (عربي-كردي). وهو أمر مفهوم من وجهة نظر مصلحة المتشددين في الطرفين، فكلاهما يعيشان على استمرار الحرب، ويتخوفان من اقتراب الحل، ويريدان تأخيره عبر إشعال فتنة جديدة، وعبر مزيد من الدم السوري المراق الذي بات مصل الحياة بالنسبة لهما.
مصلحة الأمريكي
ليس من عجبٍ أن يبدو الأمريكي (والبريطاني)، قائداً لأوركسترا التشدد في الأطراف المختلفة وفي المراحل المختلفة. وهذا أيضاً مفهوم بالمعنى العام، انطلاقاً من تقاطع المصالح الذي يمكن تبسيطه بالشكل التالي: (الأمريكي يريد سورية مستنقعاً/ المستنقع هو البيئة المناسبة لحياة المتشددين السوريين).
ولكن أبعد من المعنى العام يمكننا تثبيت النقاط التالية:
- في الإطار العام للتراجع الأمريكي، فإنّ لحظة الانسحاب الكامل من سورية تقترب موضوعياً، وما الانسحابات المتتالية والمتسارعة من ألمانيا وأفغانستان والعراق (والعراق خصوصاً) إلا بشارات هذا الانسحاب.
- الانسحاب يحتاج إلى إعادة ترتيب أمور الشمال الشرقي بحيث يجري تلغيمه من الداخل، لينفجر مع خروج الأمريكان ويتحول انفجاره «الذاتي» إلى بديل عن الوجود الأمريكي، يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها الوجود الأمريكي: الفوضى ومنع الحل وتأبيد المستنقع.
- الأداة الأكثر أهمية في هذا الإطار، هي افتعال حرب على أساس قومي (عربي- كردي)، بل وأكثر من ذلك، تعقيد الملف إلى الحدود القصوى عبر جرّ أرجل أكبر عدد ممكن من الدول إلى المستنقع؛ وذلك عبر إغرائها بقدرتها على الحلول محل الأمريكي ووراثة نفوذه: (يشمل ذلك محاولات جرّ تركيا وإيران وروسيا وكردستان العراق) على أمل أن يصطدم الجميع مع الجميع.
- من الأدوات المهمة أيضاً في هذا الإطار، ضمان احتواء قسد ومنعها من القيام بأي سلوك مستقل، ورفع عصا (الائتلاف والعشائر وتركيا) عليها، وباليد الأمريكية... وليست خافية تصريحات جميل بايك الأخيرة الرافضة لسيطرة الأمريكي على النفط السوري، بل ورفضه العلني للعقد الموقع مع شركة نفط أمريكية... وليست خافية المعاني العميقة والبعيدة لذلك (جميل بايك هو أحد القيادين الأساسيين في حزب العمال الكردستاني وعضو اللجنة القيادية لـKCK منظومة المجتمع الكردستاني)...
- في السياق نفسه، فإنّ افتعال حرب داخلية طويلة الأمد تتطلب الخبرة التاريخية للأمريكي في التخريب. هذه الخبرة تتضمن قانوناً أساسياً: يجب أن تكون الأطراف كلها ضعيفة بحيث لا يستطيع أي منها التغلب على الآخر، وقوية بحيث تستطيع إحداث دمار وتخريب كافٍ... وفي هذا السياق نرى الأمريكي يلتقي رياض حجاب مثلاً (وعلى يومين متتالين التقاه جويل ريبورن نائب جيفري في واشنطن)، حجاب نفسه الذي يحرّض وضوحاً على حرب بين العشائر وقسد مستنداً بشكل خاص إلى أوضاع دير الزور التي أشرنا إليها أعلاه. وكذلك ليست خافية العلاقة بين الائتلاف والأمريكي، الائتلاف نفسه الذي يطلب من الأمريكي إزاحة «قسد الإرهابي» للجلوس مكانه... وفوق ذلك نرى الأمريكي يستمر في إرسال الإشارات الكاذبة حول «إخلاصه» لقسد، نرى بين صفوف قسد أيضاً، أنماطاً من المتشددين الذين يعتدّون بتلك الإشارات، ويبنون عليها.
الوقائع أشياء عنيدة
يعيش الأمريكي بما يتعلق بالشمال السوري سباقاً محموماً مع الزمن؛ إذ عليه أداء مهمة محددة ضمن آجال قصيرة قد لا تتعدى الأشهر: ينبغي إشعال الحرب، والانسحاب.
وعلى الوطنيين السوريين من الأطراف المختلفة أن يركزوا اهتمامهم في اتجاهين هما في الحقيقة اتجاه واحد: تصعيد المقاومة ضد الأمريكي، رفع مستوى التفاهم بين السوريين أنفسهم، لتحييد وإضعاف المتشددين من كل الجهات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 979