الغاز والحرية وحائط السد..
سعد خطار سعد خطار

الغاز والحرية وحائط السد..

كان من الملفت قيام وزارة الطاقة الأمريكية مؤخراً بإعادة تسمية خط الغاز الطبيعي المصدَّر من الولايات المتحدة نحو أوروبا باسم «غاز الحرية»، ولعل السؤال المنطقي في هذا الصدد هو: الحرية لمن؟ لأوروبا التي لديها بالفعل مصدر رخيص وموثوق به للغاز الطبيعي وبتكلفة أقل، لكنها تضطر لشراء الغاز الأمريكي صاحب الكلفة الأكبر تحت تهديد العقوبات؟ بالتأكيد لا.

يعيش العالم اليوم حرباً وتصعيداً على جبهات عديدة. حيث يتم كسر قواعد القانون الدولي والنظام المعمول به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشكلٍ غير مسبوق، وذلك من خلال تصعيد السياسات الخارجية ضد الدول التي تمتنع عن منح المصالح الأمريكية الامتيازات الاقتصادية القصوى. إلا أن لهذا السلوك الأمريكي ردود فعل كبيرة مقابلة، منها: الأشواط الواسعة التي قطعها الثنائي الروسي الصيني في التأسيس لبعض الأدوات الفاعلة في تفكيك الهيمنة الأمريكية، إلى جانب التوجه الأوروبي المتصاعد لرفض الإملاءات الأمريكية.

الأداء الأمريكي يُسرّع الانعطاف..

لم يترك وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، شيئاً من لوازم خطاب الحرب الباردة إلا واستخدمه ضد الصين وروسيا خلال زيارته مؤخراً إلى أوروبا، محاولاً تقسيم العالم إلى «نحن» و«هم» بالتوازي مع جهوده البائسة لضم أوروبا إلى هذه الـ «نحن»، متغافلاً عن الوقائع الجديدة في العالم، التي تحول دون إمكانية تحقيق ذلك.
وفي الواقع، وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، مثل: ألمانيا وفرنسا إلى منعطف تاريخي، وتحديداً بعد أن سحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جزءاً كبيراً من الجيش الأمريكي المتمركز ضمن وحدات الناتو الموجودة في ألمانيا إلى دول أوروبية أخرى، وبعد أن رفضت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، السفر إلى قمة مجموعة «السبعة الكبار» في الولايات المتحدة بسبب تدهور الوضع الصحي فيها، أما السبب الأهم في ذلك، فهو إعلان واشنطن عن فرض عقوبات على الشركات المشاركة في مشروع خط أنابيب الغاز «السيل الشمالي 2».
وفي هذا السياق، قالت ميركل، في مقابلة مع صحيفة الجارديان: «إن الألمان نشأوا وهم يعلمون أن الولايات المتحدة تريد أن تكون قوة عالمية. والآن، بعد أن أساءت الولايات المتحدة استخدام سلطتها ضد بعض أقوى حلفائها، يمكن لألمانيا- التي تتولى حالياً رئاسة الاتحاد الأوروبي- أن تبذل جهوداً أكبر كي تكون الكتلة الأوروبية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة».

أوروبا تبحث عن مصالحها

خلال السنوات القليلة الماضية، وجدت أوروبا نفسها بحاجة إلى اتخاذ قرار عاجل في مسألة البقاء في فلك واشنطن، أو «إنشاء تحالف مستقل أكثر لخدمة مصالحها الخاصة». وكان بالإمكان أن نرى خطوات ملموسة في العمل الأوروبي على الخيار الثاني، لا سيما من ألمانيا وفرنسا، حيث اكتسبت فكرة صنع القرار الأوروبي المستقل أهمية بالغة بالنسبة للبلدين، وهذا ما فسر في حينه حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن «موت الناتو سريرياً»، وكذلك محاولته فرض ضرائب كبيرة للغاية على عمالقة الشبكات الأمريكية، مثل: غوغل وغيرها، والواقع، أن العديد من دول الاتحاد الأوروبي الكبرى تضغط من أجل أن تكون الكتلة أكثر استقلالية عن واشنطن. ويكاد لا يستثنى من هذا الكلام سوى بعض أعضاء «حلف وارسو السابق» في الاتحاد الأوروبي، مثل: بولندا وليتوانيا، اللتين تدعمان الولايات المتحدة بقوة.
وعملياً، لا تلعب الإرادة الأوروبية وحدها دوراً في تعزيز هذا التوجه الأوروبي، بل إن أداء الولايات المتحدة ذاته يساهم في تسريعه، حيث إن قرار ترامب بسحب 12 ألف جندي أمريكي من ألمانيا، يمكن أن يحث برلين ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى على التيقن بأن الوقت قد حان لإعادة النظر في أسس الناتو التي فقدت شرعيتها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991.

التناقض في الضرورات

يريد ترامب، منع مبادرة الحزام والطريق الصينية من التوسع، وإبقاء الشركات الصينية، مثل: هواوي بعيدةً عن البنية التحتية التكنولوجية في أوروبا، وتهديد منطقة المحيط الهادئ، ومنع التعاون الأوروبي الروسي المشترك في بناء خط «السيل الشمالي2». من جانبها، تريد ميركل الاستفادة من اجتماعها القادم مع الرئيس الصيني لتحديد طبيعة تطور العلاقات المستقبلية مع الصين، مدركة أن العلاقات الدولية أصبحت أكثر تغيّراً من ذي قبل، حيث لدى أوروبا فرصة لتطوير نماذج جديدة للتعاون مع آسيا في إطار المصلحة الأوراسية، حيث لا تستطيع ألمانيا ولا غيرها من الدول الأوروبية أن تنكر وجود واقع جديد في العالم، مفاده أن المصلحة التي تربطها مع القوى الصاعدة كروسيا والصين، أكثر بكثير من تلك التي تربطها مع الجانب الأمريكي، الذي فقد جزءاً كبيراً من مقومات سيادته السابقة على العالم.
على هذا النحو، يصل عدد كبير من المتابعين للعلاقات الأمريكية الأوروبية إلى استنتاج، مفاده: أن علاقة التحالف والتعاون القائمة بين الجانبين قد وصلت إلى حائط مسدود، ويعود ذلك إلى عجز واشنطن عن لعب دور الحليف، الذي ينبغي عليه أن يضع في حساباته ضرورة مراعاة مصالح الأطراف التي يتحالف معها. لكن الولايات المتحدة، التي ترفض بهذا الشكل أو ذاك الاعتراف بالوقائع الجديدة، لم يعد في جعبتها سوى إلحاق الضرر بحلفائها التقليديين، الذين يعانون بدورهم من ضغوطات صعبة، وهذا ما يفسر تصاعد الأصوات الأوروبية التي تطالب باتخاذ موقف أكثر وضوحاً إزاء التهديدات الأمريكية، بفرض العقوبات على كل من يخالف إملاءات البيت الأبيض، ومن بينها: أصوات برلمانية متباينة إلى حدٍ كبير في خلفياتها الأيديولوجية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
977
آخر تعديل على الإثنين, 03 آب/أغسطس 2020 15:29