عن السياسة بوصفها احتيالاً وبوصفها نضالاً... والموقف من واشنطن كمثال
يقف الوضع السوري بأسره على عتبة الدخول في مرحلة جديدة نوعياً من التحولات العاصفة؛ ورغم أنّ المشهد بأبعاده المختلفة وعلى رأسها الاقتصادي المعيشي، يبدو سوداوياً بالنسبة للكثيرين، إلا أنّ نظرة متفحصة ليس إلى الوضع السوري فحسب، بل إلى مجمل التطورات الدولية والإقليمية، تشير بوضوح إلى انفراجات قريبة قادمة.
لعل أهم جوانب الانفراج القادم، بالتوازي مع تثبّت وتصلب ميزان القوى الدولي الجديد واقتراب التطبيق الكامل للقرار 2254، هو الموجة القادمة من الحركة الشعبية في سورية. الحركة الشعبية القادمة ستكون العامل الحاسم في الاستفادة من التوازن الدولي الجديد، ومن تطبيق القرار 2254، لجعلهما يصبان في مصلحة سورية، وفي مصلحة الأغلبية الساحقة من السوريين. دون هذه الحركة، دون انتظامها ونضجها، لا يمكن ضمان شيء.
ولأنّ الحركة الشعبية في جوهرها هي تعبير عن النشاط السياسي العالي للناس، فإنّ فكرة العمل السياسي نفسها، وبسبب ما تعرضت له من تشويه منظم وطويل الأمد، تحتاج إلى الوقوف عندها مطولاً، وإلى تحديد ماهيتها واتجاهاتها.
المجتمع المدني والسياسة
أحد مداخل التعاطي العام مع العمل السياسي هو ذلك الفصل التعسفي الذي يجري تقديمه كمسلمةٍ على الجميع الإقرار بها؛ وهي أنّ العمل المدني يتصف بالحياد، في حين إن العمل السياسي يتصف بالتحزب. وبطريقة أو بأخرى يجري إسباغ قيمة إيجابية على «العمل المدني» بمقابل قيمة سلبية يجري دمغ «العمل السياسي» بها.
لن نتعمق هنا في معالجة عملية الفصل هذه، ولكن سنكتفي بالإشارة إلى كونها مقطوعة الأساس النظري؛ فمفهوم المجتمع المدني نفسه، كان لدى واضعه الأساسي (الفيلسوف الألماني هيغل)، متضمناً لمفهوم المجتمع السياسي، بل ومطابقاً له في كثير من الأحيان. عملية الفصل بين الاثنين بدأت في النصف الأول من القرن الماضي، مع نشوء المؤسسات الدولية ابتداء من عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة، وكذلك مع تنامي أشكال القمع الناعم (الهيمنة) كمساعد وبديل عن القمع الخشن (السيطرة)، التي كان من الضروري بموجبها (الهيمنة) أن يتحول المجتمع المدني نفسه إلى منظومة لامتصاص الصدمات، والصدمات الثورية بشكل خاص.
بالعودة إلى الصبغة السلبية التي يجري دمغ العمل السياسي بها، لا بد لنا من نظرة سريعة إلى الوراء، وفي الإطار السوري، لكي نتبين أساس هذه الصبغة
نظرة سريعة للوراء
بعيداً عن الحديث المجرد، وقريباً من الشؤون السورية الملموسة، من المفيد أن ننظر بداية، وبشكل مكثف، إلى المواقف السياسية الأساسية التي اتخذها الطرفان السوريان المتشددان، بوصفها مثالاً ملموساً عن ماهية العمل السياسي في سورية، وبالتالي عن آراء الناس حوله.
لجهة النظام، فقد أصر منذ البداية على فكرة المؤامرة تفسيراً وحيداً لكل شيء، وكذلك على ما أسماه الحل الأمني، والذي تطور لاحقاً إلى الحسم العسكري. أصرّ أيضاً على رفض الحوار في البدايات، ولدى قبوله به، فقد تعامل معه دائماً بوصفه أداة للمراوغة والتهرب من الضغوط. ليس أدلّ على ذلك من تجاهله لتوصيات اللقاء التشاوري تموز 2011، وما تلا ذلك من أحداث، سواء عبر السلوك الاستعراضي في جولات جنيف المتعاقبة، أو من الموقف غير الرافض وغير الموافق علناً على 2254 ولكن الرافض عملياً وبالتلميح كلما كان ذلك ممكناً، ووصولاً إلى سلوكه التعطيلي السابق والحالي اتجاه اللجنة الدستورية.
على الضفة «المقابلة»، فقد اتخذ المجلس الوطني، ومن ثم الائتلاف وبعدهما هيئة التفاوض بنسختيها، والتي بقيت السيطرة الأساسية ضمنها للجهات نفسها، مجموعة من المواقف المعادية للحل السياسي؛ ابتداءً من رفض الحوار وطلب التدخل الخارجي وتشجيع العسكرة، ومن ثم رفض خطة كوفي عنان والمبادرة العربية وبيان جنيف والقرار 2254 ومسار أستانا ومؤتمر سوتشي واللجنة الدستورية.
المشترك بين متشددي الطرفين، أنهم اضطروا دائماً للموافقة لاحقاً، إلى هذا الحد أو ذاك، وفي إطار المراوغة واستمرار التعطيل، على ما رفضوه سابقاً... ومن حسن طالعنا كسوريين، (إذا كان من الممكن الحديث عن حسن طالع) أنّ منصات ومساحات التخزين الإلكتروني قد تطورت بشكل كبير بحيث إنّ كل المواقف مسجلة ومحفوظة بالبيانات والتصريحات والصوت والصورة.
السياسة بوصفها احتيالاً!
الغرض من العرض السابق هو الوصول إلى الفكرة التالية: إذا كان الطرفان المتشددان واللذان تصدرا المشهد خلال السنوات السابقة، يمارسان السياسة بالطريقة الموضحة أعلاه؛ أي برفع شعارات واتخاذ مواقف معينة، فقط ليتم التراجع عنها إلى ضدها بعد ذلك، فإنّ من الطبيعي أن يحكم السوريون على السياسة ككل وعلى الممارسة السياسية بأنها ليست أكثر من ممارسة احتيالية، مراوغة، كاذبة، انتهازية، لا يحكمها مبدأ وليس فيها أية ثوابت، ما دام أي موقف مهما بدا صلباً، هو موقف خاضع للبازار، وقابل للتغيير من الضد إلى الضد...
ضمن هذا التصور، يصبح من المفهوم تماماً، أن نتلقى نصحاً صادقاً من البعض بالقول: لا تعلنوا عداءً مطلقاً للولايات المتحدة، اجعلوا مواقفكم «مرنة» أكثر... وبهذا المعنى فنحن حقاً لا نتمتع بأدنى درجات المرونة؛ طالبنا بالحوار منذ اللحظة الأولى، وافقنا على المبادرة العربية وبيان جنيف و2254 ومسار أستانا وسوتشي واللجنة الدستورية وبقينا على مواقفنا، وطوال الوقت كان الشعار الأساسي الذي نعمل من أجله هو التغيير الجذري الشامل الاقتصادي الاجتماعي السياسي والديمقراطي، وذلك بالتوازي مع مواقف ثابتة اتجاه الأمريكي واتجاه الغربي عموماً. و(الاقتصادي الاجتماعي) هو مفتاح حاسم لفهم الأمور والمواقف المختلفة من وجهة نظرنا...
المتشددون في الطرفين، لا يكتفون بممارسة السياسة بمفهومها الاحتيالي، بل ويساهمون في تشويه معنى السياسة والعمل السياسي في أذهان الناس؛ يكفي أن نتذكر أنّ متشددي النظام يسخّفون باستمرار الجانب السياسي للأزمة، لحساب محاربة الإرهاب والجانب الوطني الشعاراتي، وكأنّ كلاً من الجانبين مستقل عن الآخر أو قابل للحياة دونه. على الطرف الآخر يتحفنا البعض بتصريحات من قبيل (نحن ثورة ولسنا معارضة)، أي أنهم ليسوا ساسة، والعجيب أنّ هؤلاء لم يمتنعوا عن ممارسة العمل السياسي طوال السنوات السابقة، بل وعلى تصدره، بعد أن كانوا متصدرين طوال عقود ضمن بنى الفساد الكبير داخل جهاز الدولة.
السياسة تكثيف للاقتصاد
ترى الماركسية، أنّ السياسة تكثيفٌ للاقتصاد، وأنّ علاقات الإنتاج هي القاعدة المادية التي تبنى فوقها الحياة السياسية للمجتمع. ولكن دون الدخول في عمق النظرة الماركسية للأمر، يمكننا القول بشكل مبسط: انظروا إلى البرامج الاقتصادية للأطراف المتشددة ومصالح من تمثل، وعندها يصبح من الممكن ليس فهم مواقفها السياسية السابقة فحسب، بل والتنبؤ بما سيأتي من مواقف.
بالنسبة للنظام، فلا حاجة للبحث بين الأوراق والكراسات عن برنامجه الاقتصادي، يكفي النظر إلى الواقع، وليس اليوم فحسب، بل وخلال ثلاثين سنة مضت على الأقل. توزيع الثروة الوطنية في سورية والذي يذهب بموجبه ما يصل إلى 90% لقلة اقتصادية لا تزيد عن 10%، يوضح أنّ النظام السياسي القائم، يعمل لخدمة مصلحة هذه الـ 10% العابرة للطوائف والقوميات، وضد مصلحة الـ 90% المتبقين العابرين بدورهم للطوائف والقوميات.
بالنسبة للمعارضة، أو لنقل للأقسام منها المزودة بالفيتامين الإعلامي والسياسي الخارجي، فإنّ البرامج المطروحة على الورق، تُجمع تقريباً على (اقتصاد السوق الحر)، أي على برامج النظام نفسها، وعلى توزيع الثروة نفسه، وبهذا المعنى فإنّ هذه «المعارضة» ليست معارضة للنظام، بل معارضة للسلطة؛ أي أنّ مشكلتها ليست مع نهب الناس وقمعهم، بل حول من يملك «الحق» في القيام بذلك.
وليس من المستغرب أنّ موقف الجهتين من قيصر والعقوبات الغربية هو ذاته في الجوهر. النظام يقول للناس: (اصمدوا واصبروا، ليس أمامكم من خيار، لن أحارب الفساد الكبير، لن أتخلى عن الدولار، لن أتخلى عن منظومة النهب عبر الاستيراد، لن أتخلى عن السياسات الليبرالية، لن أسهل المضي نحو الحل السياسي، ولكن عليكم أن تصمدوا، ويُفضَّلُ أيضاً أن تصمتوا بينما أنتم صامدون).
المتشددون من الطرف المقابل، يؤيدون العقوبات ويقولون بضرورتها وينفون تأثيرها على الشعب السوري، وإذا اعترفوا بوجود «بعض الآثار الجانبية» فإنهم يقولون للناس: اصبروا «إنما النصر صبر ساعة». والصابرون طبعاً هم عموم السوريين وليس «نخبتهم» المعارضة التي لم ينتخبوها.
ولأنّ السياسة تكثيف للاقتصاد وللمصالح الاقتصادية، فإنّ المتشددين في الطرفين يمارسون السياسة نفسها من حيث الجوهر في نهاية المطاف، ولكن هل هذه هي السياسة كلّها؟
السياسة: سياستان
إذا كانت السياسة التي تمثل الناهبين تحمل السمات الأخلاقية والاقتصادية لهم كفئة وشريحة طبقية، أي سمات النصب والاحتيال والمراوغة والريعية والطفيلية، فإنّ السياسة التي تمثل المنهوبين، ينبغي لها أن تحمل أيضاً سماتهم الأخلاقية والاقتصادية، أي سمات العمل المنتج الحقيقي، الصادق والمباشر والصريح والأخلاقي.
هل يندرج الكلام السابق في إطار توهمات طهرانية؟ لا نعتقد ذلك نهائياً، فالعصر الذي نعيشه هو عصر الحركة الشعبية العارمة والمستمرة والمتصاعدة، وهو لذلك عصر موت الفضاء السياسي القديم (الذي تكرّست ضمنه المفاهيم الاحتيالية للسياسة)، وولادة الفضاء السياسي الجديد الذي سيتطور شيئاً فشيئاً ليعبّر عن مصالح المنهوبين.
السياسة التي تمثل المنهوبين، تتحلى بالمرونة الممزوجة بصلابة المبدأ، هي سياسة نضالية، ثورية، وليست سياسة مراوغة واحتيال، ولذا فإنّ المواقف المبدئية ضمنها ليست قابلة للمساومة.
أهم من ذلك كلّه، أنّ السياسة التي تمثل المنهوبين، سندها الأساسي هم المنهوبون أنفسهم، ولذا لا تتعامل معهم ككتلة بشرية صماء تنحصر وظيفتها بالتصفيق لهذا الطرف أو ذاك، بالتوازي مع انعدام الفاعلية المباشرة. ولذا فإنّ الحقيقة هي الأداة الأساسية بيد من يمثل المنهوبين، لأنّ الحقيقة وحدها هي من تستطيع جمع هؤلاء المنهوبين في صف واحد في وجه ناهبيهم. من السهل جداً أن تقسّم الـ 90% على أساس الطوائف والعشائر والقوميات، وعلى أساس مؤيد ومعارض، وعلماني ومتدين، ومدني وريفي، وإسلامي وقومي وماركسي... وإلخ. ولكن من الصعب جداً أن توحّدهم على أساس مصالحهم الاقتصادية المشتركة... لذا فإنّ العمل السياسي الممثل للمنهوبين هو عمل نضالي من ذلك النمط الذي وصفه أحد القادة الثوريين العظام في القرن العشرين بأنه (العمل الممل الرتيب الأسود).
عن المرونة والموقف من واشنطن
في سياق السياسة الاحتيالية، يجري استخدام مفردات من قبيل المرونة والبراغماتية والواقعية السياسية، وليس في مواضعها الصحيحة، ولكن لتبرير شيء واحد هو المواقف المتقلبة والمتناقضة، وأهم من ذلك، لتكريس سياسة تقوم على «الموازنة بين مصالح الدول والوقوف على مسافة واحدة منها جميعها»، ولكنها في جوهرها منحازة للمصالح الغربية، بما يحمل إشارة ساخرة ضمنية وكأن السياسي السوري عليه أن يعمل بوصفه (مجتمعاً مدنياً افتراضياً- حيادياً) في خضم صراع دولي حامي الوطيس.!
بما يخص الولايات المتحدة، ليست لدينا أية أوهام حول انعدام الرغبة الأمريكية في خروج سورية من أزمتها، بل العكس فإنّ الرغبة الأمريكية هي في تعميق وتأبيد «المستنقع السوري». ليست لدينا أوهام حول رفضها الضمني لتطبيق 2254 أياً يكن ما تقوله. يكفينا سلوكها اتجاه النصرة، اتجاه الشمال الشرقي، في مسألة العقوبات، في العمل ضد مسار أستانا، وغيرها من المحطات، وعلى رأسها موافقتها على ضم الجولان السوري المحتل إلى الكيان الصهيوني.
كل هذه الأمور، تجعلنا متيقنين من أنّ الوصول إلى الحل في سورية لن يتم دون قدر ما من كسر الإرادة الأمريكية، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي. كل ذلك يعني أنّ أيّة «مرونة» اتجاه الأمريكي لن تساهم إلا في إطالة أمد الأزمة ومعاناة الناس. وعليه فإنّ «المرونة» في هذا الموضع، ليست مرونة، بل احتيالاً سياسياً واصطفافاً ضد مصالح السوريين.
ولأنّ «إغضاب المستعمر أسهل دائماً من إرضائه»، فإنّ التعامل مع الأمريكي على أنه عدو، هو أمر لا بديل عنه، والحدّة في الخطاب اتجاه الأمريكي تتناسب مع حدّة إجرامه اتجاه الشعب السوري وشعوب المنطقة، وتتناسب بالذات مع تواطئه الضمني التاريخي مع شبكات الفساد الكبير المحلي، التي عملت وتعمل كإحدى أدوات تهريب ونهب ثروات السوريين باتجاه المركز الغربي...
فضاء سياسي جديد
لا تغيب مؤشرات وبوادر انطلاق موجة جديدة من الحركة الشعبية في سورية سوى عن أعمى بصر وبصيرة. ولأنها قادمة لا محالة، فإنها ينبغي أن تنخرط في تنظيم نفسها سياسياً بشكل أعمق وأكثر نضجاً من كل ما سبق، وعليها أن تفرز قياداتها وممثليها وشعاراتها من رحمها هي، وإذا تقاطعت مع قوى سياسية موجودة على الساحة فليكن، ولكن الأساس الصلب للفضاء السياسي الجديد هو الحركة الشعبية القادمة نفسها... بالإضافة إلى من يملك ما يكفي من القدرة المعرفية والمصداقية العملية، من القوى السياسية الموجودة على الساحة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 972