لا تستغربوا: سيعلنون ولاءهم للغرب وعداءهم لأستانا!
يرجع استخدام تعبير «الثنائيات الوهمية» في أدبيات حزب الإرادة الشعبية إلى سنوات 2005-2006، أي بالضبط إلى تلك الفترة التي كانت فيها احتمالات غزو أمريكي مباشر لسورية قد وصلت إلى ذروتها.
في تلك الآونة، كانت قد تنشّطت، ولمرحلة مؤقتة وقصيرة، تحركات معارضة من مثال «إعلان دمشق» (وضمنه تشكلت النواة الأساسية لعدد كبير من التشكيلات المعارضة الموجودة اليوم، وخاصة تلك التي حرضت على العنف وعلى الطائفية واسْتَجْدَت التدخل الخارجي ولا تزال)، وقبلها ربيع دمشق وغيرها.
المثير للانتباه في حينه، هو أنّ الطرح الديمقراطي العام (وعلى أهميته)، كان الطرح السائد والمشترك بين القوى والشخصيات التي انخرطت في ذلك النشاط، بالتوازي مع تغييب تامٍ للجانب الاقتصادي الاجتماعي وحتى الوطني (مع استثناءات قليلة لمناضلين وطنيين لا يمكن التشكيك بنواياهم). بل وأكثر من ذلك، فإنّ قوىً عديدة تحت مسمى «المعارضة»، كانت مناصرة علناً وإلى أقصى الحدود لما يسمى اقتصاد السوق الحر (يمكن في هذا السياق، العودة مثلاً إلى البرنامج المعلن للإخوان المسلمين عام 2005)، وضمناً فقد كانت مناصرةً لنمط اقتصادي شديد الارتباط بالغرب ومغرق في التبعية له.
المعارضة وتوزيع الثروة
بالملموس، فإنّ ما جرى تطبيقه على أرض الواقع، كبرنامج اقتصادي اجتماعي، هو بالضبط البرنامج الذي طالب به القسم الأكبر من «إعلان دمشق»! أي اقتصاد السوق الحر، ولكن تحت مسمىً أكثر مخاتلة هو «اقتصاد السوق الاجتماعي»، الأمر الذي أنتج خلال خمس سنوات (2005-2009) ازدياداً في نسبة الفقر من 30% إلى 44% من السوريين، وهو ما أسس القاعدة العريضة لانفجار 2011.
نمط توزيع الثروة في أي بلد من البلدان، والمرتبط بالنموذج الاقتصادي الاجتماعي المطبق، هو جوهر أي نظام سياسي يحكم البلد المعني. فمصالح الفئات الاقتصادية المختلفة ضمن المجتمع، هي دائماً وأبداً، جوهر المسألة، طالما تعيش البشرية في مجتمع طبقي. والتعبيرات الطائفية والقومية والدينية والإيديولوجية وإلخ، ليست سوى تعبيرات ثانوية هدفها الأساسي هو التضليل عن الحقيقة الجوهرية لمسألة توزيع الثروة.
بكلام ملموس أكثر، فإنّ الثروة التي كانت تُنتج سنوياً خلال العقد الأول من القرن، ووفقاً لإحصاءات حكومية، كانت تتوزع بالشكل التالي: (75% تذهب لجيوب 20% من السوريين، و25% للشعب، أي للـ80% المتبقين).
توزيع الثروة هذا، يفترض نظاماً جائراً وقمعياً، يمنع الناس من الاعتراض على جوره وظلمه. ولذا فإنّ من يرفع شعار السوق الحر والعلاقات الناهبة وغير المتكافئة المفتوحة مع الغرب، يريد ضمناً المحافظة على التوزيع الجائر نفسه، وعلى القمع نفسه، وهو لذلك لا يعارض نظام توزيع الثروة القائم، أي أنه لا يعارض النظام القائم، ولكن يعارض فقط، السلطة القائمة. ولماذا يعارضها؟ لأنه يريد حصة من النهب، أو النهب كلّه.
إذاً هناك نوعان من المعارضة: معارضة سلطة، ومعارضة نظام كامل بما فيه السلطة. معارضة السلطة تتفق في كل شيء تقريباً مع السلطة، ولكن تختلف معها على توزيع النهب. بالمقابل، فإنّ المعارضة الجذرية للنظام، المعارضة التي تلتزم خط الدفاع عن مصلحة الـ(90% وأكثر) من السوريين، تتناقض مع كل من النظام ومعارضة السلطة، أي مع المدافعين عن مصالح الـ(10% أو أقل).
ثنائيات وهمية
لأن من غير المعقول أنْ يعلن الطرفان أنّ الخصام بينهما ينطلق من مصالح ضيقة وأنانية، وهو صراع حول نهب الـ(90%)، كان لا بد دائماً من تسليط الضوء على شتى أنواع الصراعات والتناقضات الثانوية (الطائفية والقومية والدينية والعشائرية وإلخ)، بالضبط لتقسيم وتفرقة الـ(90%) المنهوبين، لتحقيق هدفين، الأول هو: استخدام كل من طرفي النهب (السلطة ومعارضة السلطة) لقسم من الشعب المنهوب في مواجهة القسم المنهوب الآخر، كأداة لحيازة النهب أو تحاصصه. أما الهدف الثاني والأهم، فهو: منع توحيد الـ(90%)، لأنّ ذلك يعني كارثة بالنسبة للسلطة ومعارضتها، لأنه يعني قلب توزيع الثروة رأساً على عقب، ويعني اتحاد المنهوبين في وجه ناهبيهم، ويعني بالمحصلة، تغيير النظام تغييراً جذرياً شاملاً، لمصلحة عموم السوريين، وليس تغييراً شكلياً فوقياً ومخادعاً من النمط التونسي أو المصري.
تقاطعات بالجملة
الكلام من النمط أعلاه، والذي لم يكن ملموساً بالشكل الكافي بالنسبة لجماهير المنهوبين السوريين، بات اليوم أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. فالأطراف المتشددة في النظام والمعارضة، والتي تمثل الوجه السياسي للشريحة الطبقية الناهبة والطامعة بالنهب، باتت تتقاطع في مواقفها العلنية بشكل يومي، وفي كل الملفات الكبرى، وبشكل مفضوح... وفيما يلي نورد بعض الأمثلة فقط.
قبل عام 2013، كان الخطاب الحربجي هو الخطاب السائد لدى المتشددين من الجهتين، والذي تمثل بشعارات «الحسم» و«الإسقاط». هذا النوع من الخطاب، ورغم أنه استمر بشكل أو بآخر حتى اللحظة، إلا أنّه بدأ بالتكيّف المخادع والبطيء جداً، انطلاقاً من بيان جنيف 2012. في حينه لم يظهر موقف واضح من جهة النظام حول البيان، ولكن ظهرت مواقف عديدة شبه رسمية رافضة له، وفي جهة المعارضة فقد تم رفضه كلياً ولسنتين متتاليتين.
حين عقد مؤتمر جنيف عام 2014، قام الطرفان المتشددان بحفلة مبارزة استعراضية، قادت لفشل المؤتمر والعودة السالمة إلى «المربعات» الأولى. تكرر السيناريو نفسه مع صدور القرار 2254 نهاية 2015، ومن ثم مع سوتشي واللجنة الدستورية، ولكن مع بعض التعديلات على التكتيك.
ولجهة «المعارضة»، فإنها وقفت ضد مسار أستانا، ولا تزال، ولكن في العلن بداية ومن ثم بين علن وسر. ولجهة النظام فقد تم تأييد أستانا، ولكن تم دائماً، وعلى يد المتشددين، العمل ضدها، في السر وفي العلن أيضاً.
حتى مسألة إعادة العلاقات مع الدول العربية والأوروبية، تحولت إلى بازار لا يهدف إلى فك الحصار عن سورية وشعبها، بل إلى أداة استفزاز موجهة ضد أستانا، وأملاً في تخريب العلاقات الثنائية بين الثلاثي الضامن، وبهدف إجمالي هو محاولة إضعاف المسار بأكمله، لعل وعسى يجري الحفاظ على توازن قلق بين مجموعة أستانا والمجموعة الغربية المصغرة، بحيث تبقى الأزمة قائمة، ويبقى الاستنزاف، ويتم إبعاد وتأجيل التغيير.
المرحلة الأخيرة
مع اقتراب الحل السياسي، تضخم حجم التقاطعات بين القوى المتشددة الرافضة لأي تغيير لا يصب في توزيع الثروة الجائر نفسه، وفي التبعية الاقتصادية للغرب. واليوم يمكننا القول: إنّ الثنائيات الوهمية، التي كانت تختبئ دائماً تحت اصطفافات دولية محددة، باتت مضطرة إلى إعلان اصطفافاتها الدولية الحقيقية.
لن يكون مستغرباً نهائياً، أنْ نرى المتشددين في النظام والمعارضة، يعلنون بشكل متزايد (وهم قد بدأوا بالإعلان فعلاً) عن ولائهم للغرب، وعدائهم لروسيا ولمسار أستانا... وهذا جيد جداً في نهاية المطاف... فمصلحة الـ90% من السوريين تتقاطع مع مصلحة القوى الصاعدة دولياً، ومع الميزان الدولي الجديد الذي تنكسر فيه الإرادة الأمريكية خاصة والغربية عامة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 965