الشمال السوري.. تجاذب قومي وحرب بيانات
رمزي السالم رمزي السالم

الشمال السوري.. تجاذب قومي وحرب بيانات

صدرت في الآونة الأخيرة، عدة بيانات تتضمن تصورات حول واقع ومستقبل الشمال الشرقي من البلاد، البيان الأول: كان تحت مسمى (شخصيات وتشكيلات سورية في المنطقة الشرقية..) وقع عليه ما يقارب 700 شخصية سورية، بينهم أبرز رموز معارضة الائتلاف، السابقين والحاليين، وجاء البيان- كما هو واضح من متنه- رداً على ما يجري من حوار كردي– كردي، بين المجلس الوطني الكردي، وتيار مجلس سورية الديمقراطية، وينظر بعين الشك والريبة إلى هذا الحوار، ومخرجاته الأولية، رغم عدم الإعلان الرسمي عنها من قبل المتحاورين في حينه.

وفي المقابل، صدرت عدة بيانات من قوى وشخصيات كردية حزبية ومستقلة، ترى في بيان (الشخصيات والتشكيلات) استعلاءً قومياً، واستمراراً لسياسات إنكار الوجود وإقصاء الكرد، المتبعة من قبل النظام على مدى العقود الماضية.

وبغض النظر عن تقييم السياسات العامة لهذا الطرف أو ذاك، وعن التفاصيل والمواقف الواردة في كل من البيان الأول، وبيانات الرد، فإن حرب البيانات هذه أدّت إلى المزيد من الاستقطاب القومي بين النخب، لتلقي بظلالها على الرأي العام، لتعمق الاستقطاب الذي كان ينمو ويتطور منذ بداية الأزمة السورية، وليأخذ هذه المرة بعداً أوسع، وأكثر تأطيراً، حيث أدت البيانات إلى موجة جديدة من المغالاة، وهنا يكمن جانبها الإشكالي، وربما خطرها لاحقاً، لا سيما، وأن هذه البيانات هي بمعنى ما، امتداد للاستقطاب الإقليمي والدولي. 

سؤال حول الحوار الكردي

لابد من التأكيد مجدداً، بأن أي حوار أو تقارب بين أي طرفين سوريين، ومنهم الكرد السوريين،  يعتبر خطوة  في الاتجاه الصحيح من حيث المبدأ، طالما أنها تخدم عملية الحل السياسي التوافقي على أساس القرار 2254، فالشرط الوحيد على صوابية أي نشاط هو توافقه مع هذه العملية.

مر الحوار الكردي- الكردي، بمراحل عديدة، منذ بداية الأزمة السورية، الجديد اللافت في هذه الجولة منه، هو الدور الأمريكي، ففي الوقت الذي كانت واشنطن، تنأى بنفسها عن التدخل في مسألة (وحدة الصف الكردي) حتى قبل أشهر، غيّرت بشكل مفاجىء هذا التكتيك، وجعلت من نفسها راعياً لهذا الحوار، فحسب تقرير إعلامي نشر في (آرك نيوز) ديسمبر الماضي تضمن تصريحاً للأستاذ فؤاد عليكو ، جاء فيه (بشأن مدى جدية واشنطن في التقريب بين المجلس الوطني الكوردي في سورية ENKS وحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، قال عليكو: لا أعتقد بأنهم جادون بالقدر الكافي؛ خاصة وأنهم تخلوا عن 80% من جغرافية المنطقة الكوردية لتركيا وروسيا والنظام، ولو كانوا جادين باهتمامهم بالملف الكوردي لما انسحبوا من هذه الجغرافية)

 وقال عليكو: (طلبنا منهم أن يكونوا من رعاة التفاهم بيننا وبين PYD لكنهم رفضوا ذلك وأبدوا رغبتهم في تحقيق التقارب فقط، دون رعاية منهم، لا أكثر) 

لماذا تغّير التكتيك؟

والسؤال هو: ما الذي استجد حتى تغيّر التكتيك الأمريكي في هذا الحوار؟

أغلب الظن، أن هذا التغيير في الموقف الأمريكي، جاء لسببين:

  • بعد الاحتلال التركي لكل من رأس العين، وتل أبيض، عبرت الجماهير الكردية العريضة والكثير من النخب والقوى عن رغبتها وبأكثر من طريقة، في ضرورة توافق الطرفين الكرديين، وتعرضت النخب السياسية الكردية في الطرفين إلى ضغط جماهيري واسع لأجل ذلك، أي أن شكلاً ما من التوافق كان قد أصبح ضرورة موضوعية، ومتكاملاً مع رغبة شعبية واسعة، فجاء المستثمر الأمريكي كالعادة ليستثمر في الوضع الناشىء، محاولاً التحكم بالعملية، وعزل الملف الكردي عن سياقه الوطني السوري، لاسيما أن هناك إشارات متعددة حول احتمال استئناف مسار الحل السياسي للأزمة السورية، بعد تخفيف إجراءات كورونا. 
  •     يأتي هذا الدور في سياق استكمال محاولات قائمة منذ تدويل الأزمة السورية، بالاحتواء المزدوج لكل من الدورين التركي والكردي، فبعد أن كانت الولايات المتحدة قد فتحت الطريق لقوات الاحتلال التركي بالتدخل في مناطق رأس العين وتل أبيض، ووضعت بذلك الكرد تحت الضغط التركي المباشر، ومن جهة أبقت على تواجدها، ومؤخراً كثفت وجودها العسكري في المناطق المتبقية تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية، وأعلن الطرف الأمريكي مراراً استمرار دعمه لهذه القوات، لتبقي حليفها التركي أيضاً تحت الضغط، أي ابتزاز كل طرف بالآخر، ليبقى بذلك الوضع السوري ككل تحت ضغط مركّب.. تركي من جهة، وأمريكي من جهة أخرى من خلال الاستثمار في الورقة الكردية، وأمريكي تركي بواسطة جبهة النصرة وأشباهها في إدلب من جهة ثالثة، بمعنى آخر، محاولة الإمساك بما يمكن من الخيوط، ورفع منسوب الفوضى، والتأسيس لرفعه لاحقاً إلى حد أعلى، إذا تطلب الموقف.

ومع بدء تنفيذ قانون قيصر، ومفاعيله المتوقعة على عموم سورية، وبالأخص في تلك المناطق الخارجة عن سلطة الدولة السورية، والتعليمات التي تصدر والتلميحات والتسريبات التي تجري حول التعامل بالدولار أو بالليرة التركية، بدل الليرة السورية، ودلالات ذلك من جهة الحفاظ على وحدة سورية، يتأكد وجود طبخة أمريكية جديدة، وتتضح أسباب الدخول الأمريكي على خط المصالحة الكردية. 

الدور الأمريكي اللاحق

 كانت السمة الأساسية للسلوك الأمريكي، خلال السنوات السابقة يتكثف في إدارة الأزمة، ومنع حلها، ضمن هذا الفهم يمكن التنبؤ بالسلوك الأمريكي اللاحق في إدارة هذا الملف، أي ملف الاستقطاب القومي.. فإما إعطاء وعود وإرسال إشارات دعم إلى الطرفين كل على حِدة، بحيث يستقوي كل منهما على الآخر بالدعم الأمريكي المفترض، وبذلك ترتفع حدّة الاستقطاب، لتبدأ ماكينة البروباغندا القومية بالعمل، طرف قومي يقيم الدنيا ولا يقعدها بذريعة الدفاع عن وحدة البلاد، والطرف الآخر يرد بداعي ضمان الحقوق القومية الكردية، لتكون النتيجة: لا الحفاظ على وحدة سورية، ولا تأمين الحقوق الكردية، أو من خلال فرض واقع مناطق النفوذ، وإعادة تقاسمها بين كل من يستمر في الاعتماد على الأمريكي، من أبناء تلك المناطق، لتكون أحد أشكال التقسيم غير المعلن، أو السعي إلى إحياء نموذج ما يسمى ديمقراطية المكونات، إذا استؤنفت العملية السياسية، أي في كل الأحوال المزيد من الفوضى. 

البيانات المتضادة وتشابه الرؤى

من خلال العودة إلى الرؤية السياسية المتعلقة للقوى والشخصيات والأطراف الموقعة على البيانين، يمكن القول: إن نقطة استنادها واحدة، وهي الرهان على العامل الدولي في تحقيق الأهداف، انسياقاً مع الأوهام والوعود التي قدمتها الدول الداعمة، وخصوصاً الولايات المتحدة، تلك الرؤية التي لعبت دوراً إلى جانب دور القوى المتشددة في النظام،  باستمرار الكارثة الإنسانية، حيث ساهم الطرفان (النظام ومعارضة الائتلاف) خلال سنوات الأزمة، وكل من موقعه، في عرقلة الحل السياسي، أو الالتفاف عليه، أو محاولات تمييعه، وإفراغه من محتواه.

والطريف في الأمر، أن القوى والشخصيات الموقعة على كلا البيانين المتضادين يعتمدان على الأطراف الدولية نفسها، وهما الولايات المتحدة وفرنسا، فالحوار الكردي يجري برعاية مباشرة من الأمريكي، بالإضافة الى دور فرنسي مساعد في الكواليس، حسب ما تسرب من أخبار، وبيان الطرف الآخر يقول في إحدى فقراته (ونعرض خلال ذلك على الحكومات الأمريكية والفرنسية وباقي الدول الصديقة مبادرتنا للعمل...).  

الواقعية بديلاً عن التجاذب

كما أكدنا مراراً في سنوات الأزمة، فإن حل المسألة الكردية عدا عن كونه حقاً ديمقراطياً مشروعاً، هو أيضاً ضرورة وطنية سورية، ونعتقد أن خريطة طريق حل هذه المسألة، تقوم على أساس حدين ثابتين:

الحد الأول: إنهاء سياسات التمييز القومي وإنكار الوجود، ومفاعيلها، ونتائجها، والاعتراف الدستوري بالتعدد القومي.

الحد الثاني: الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً.

في مكان ما بين هذين الحدين اللذين لا يحق لأحد تجاوزهما، كونهما ضرورات موضوعية سورية، يكمن الحل الوطني الديمقراطي للمسألة الكردية في سورية، أما تفاصيل الحل وصيغته النهائية، فهذا منوط بالحوار بين السوريين، والحل السياسي التوافقي لعموم الأزمة السورية، فلا هو شأن الحركة القومية الكردية وحدها، ولا هو شأن معارضة الائتلاف وحدها، ولايحق لأحد وضع شرط مسبق، أو(فيتو) من أحد الاتجاهين.

مع التأكيد بأن العلاقة بين الحدّين علاقة تكامل، لا يمكن تجاهل أحدهما، لا بل من الناحية الواقعية تجاهل أي حد من هذين الحدين، يعني عملياً نسف الآخر أيضاً.

تجدر الإشارة هنا، أنه مع إنجاز هذه المقال صدر بيان جديد، تحت مسمى (نداء من أجل تحالف عربي ديمقراطي) في الجزيرة والفرات ذو شحنة قومية أعلى، وواضح من مفردات البيان: أن هؤلاء يبحثون عن دور لهم، في بعض المناطق الواقعة تحت النفوذ الأمريكي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
972
آخر تعديل على الثلاثاء, 30 حزيران/يونيو 2020 16:32