«شبحٌ» يبعث مكارثي من قبره

«شبحٌ» يبعث مكارثي من قبره

فجأة وكأن شيئاً لم يكن، كل الكلام السابق الذي كررته الإدارة الأمريكية والنخب الغربية عن أن الرأسمالية هي «نهاية التاريخ» جرى تجاوزه. ومن جديد، باتت التصريحات الرسمية التي تذم الشيوعية تُوحي وكأن الولايات المتحدة قد عادت إلى نهاية أربعينات القرن الماضي: ها هم برتولد بريخت وألبرت آينشتاين وتشارلي شابلن وآرثر ميلر وغيرهم يجلسون إلى طاولة الاتهام، وها هو السيناتور جوزيف مكارثي يحاول تصيّد «المتهمين» ليلصق بهم «تهمة الشيوعية».

في سياق تصريحاته شبه اليومية حول تداعيات فيروس كورونا والمستجدات السياسية في العالم، لم يوفّر وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، جهداً في الهجوم على الصين. وهذا ليس بجديد، لكن الملفت خلال الأسابيع الأخيرة هو أن بومبيو وزملاءه في الإدارة الأمريكية لم يعودوا يشيرون إلى الصين بوصفها «الصين» فقط، بل «الصين التي يقودها الحزب الشيوعي». ربما لم ينتبه بومبيو وزملاؤه إلى أن تكرار كلمة «شيوعي» بهذه الكثرة لوصف نظام الحكم في الصين على مسامع المواطن الأمريكي الذي يُقارن بدوره بين طريقة تعاطي إدارة بلاده مع الكوارث الصحية، وطريقة تعاطي الصين معها، قد يثير لدى هذا المواطن رغبات غير محمودة إطلاقاً من جانب الإدارة الأمريكية.

«ورديات» لمواجهة الخطر الداهم

من يتابع قناة «فوكس نيوز» الأمريكية هذه الأيام، يشعر وكأن شبح الشيوعية يقتحم أسوار الولايات المتحدة وتحاول القناة أن تتصدى له بكل قوتها، حتى لو استدعى الأمر أن تقوم القناة بنظام مناوبات (ورديات) بين بومبيو وأعضاء مجلس الشيوخ ليندسي غراهام وتوم كوتون وماركو روبيو ومساعدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بيتر نافارو وستيف بانون. فما غفا أو سها عنه الضيف الأول يستدركه الضيف التالي، وهكذا دواليك... وهذا مثال واحد، إذا ما أضفناه إلى تغطيات «سي إن إن» و«اي بي سي» و«بي بي سي أمريكا» يمكن الخروج بصورة عن السلوك الإعلامي الأمريكي اليوم. حتى «ناشيونال جيوغرافيك» عزيزي القارئ شهرت سلاح «الوثائقيات السياسية» وتأهبت لمقارعة الشبح.
وبعيداً عن التهكم، يبدو الهدف من ذلك جلياً وواضحاً: حيث تحاول النخب الحاكمة في الولايات المتحدة تحميل الصين مسؤولية الكارثة الاقتصادية الاجتماعية التي سادت الولايات المتحدة جراء الفشل الذريع الذي يصيب النموذج الاقتصادي والسياسي الأمريكي. فما الذي يمكن لنا أن ننتظره من نموذج يتصدّر اليوم أعداد الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا وأعداد المصابين به (ثلث الرقم العالمي)، مع وجود ما لا يقل عن 30 مليون مواطن باتوا معطَّلين عن العمل، والتقديرات تصل إلى 100 مليون معطّل خلال الأشهر القليلة القادمة، وفي ظلِّ شحِّ شديد في اللوازم الطبية وإجراءات الوقاية الصحية، سوى خوض حرب إعلامية هدفها تشويه النموذج المقابل؟

«سيحين وقتها»

خلال الأسبوع الماضي، كثّف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من الحملة الهجومية ضد الصين، في محاولة يائسة لتدفيع الصين تعويضات بمليارات الدولارات، وتحقيقاً لهذه الغاية بدأت الماكينة الإعلامية في سرد رواية مؤامراتية مفادها: أن فيروس كورونا المستجد قد أُطلق من مختبرٍ في مدينة ووهان الصينية. والمثير للسخرية هو تأكيد ترامب أنه «شاهد أدلة» تدعم اتهاماته، لكنه لا يستطيع أن يُقدم تفاصيل، أما الهدف من ذلك، فهو- بحسب زعمه- أن بكين تتعمّد نشر المرض كسلاح سياسي لتقويض رئاسته هو و«ستفعل أي شيء» لإحباط إعادة انتخابه في تشرين الثاني، وأنها تفضل المرشح الديمقراطي للرئاسة، جو بايدن. ووجه السخرية في هذا الصدد هو أن الكلام كان ليبدو منطقياً لو أنه صادر عن رئيس دولة كان السبب في صداع الصينيين، لا عن رئيس دولة خارجة للتو من معركة تجارية خاسرة تماماً مع الجانب الصيني الذي خرج منها منتصراً انتصاراً ناجزاً!
وفي هذا الإطار، اكتفت الصين بالرد على تصريحات وزير الخارجية الأمريكية عبر وسائل الإعلام الرسمية التي أكدت: أن هذه المزاعم لا أساس لها، وأن واشنطن تقوم بعملية تلاعب بالرأي العام، مؤكدة أن «الحقيقة هي أن بومبيو ليس لديه أي دليل. وإذا كان لدى واشنطن أدلة قوية، فعليها أن تسمح لمعاهد البحوث والعلماء بفحصها والتحقق منها... إن هدف حكومة الولايات المتحدة هو إلقاء اللوم على الصين بشأن الوباء، بالإضافة إلى التلاعب بالرأي العام، وتجنب اتهامها بسوء التصرف اتجاه الوباء».
لكن الملفت أن رداً آخر على مزاعم الإدارة الأمريكية جاء هذه المرة من خلال تقارير أعدتها وسائل إعلام أمريكية أكدت أن العديد من الدراسات أظهرت أن حالات إصابة بفيروس كورونا المستجد كانت قد ظهرت في وقتٍ أبكر بكثير من الإبلاغ الرسمي عن أول حالة في الصين. حيث ظهر في حزيران 2019 مرض تنفسي قاتل «مجهول السبب» في أحد الأحياء السكنية في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة أصاب 54 شخصاً، وأدى إلى وفاة اثنين من كبار السن المصابين بأمراض كامنة بسبب الالتهاب الرئوي. ويبعد هذا الحي السكني ساعة واحدة بالسيارة عن معهد أبحاث الفيروسات التابع للقوات البرية، والذي جرى إغلاقه من جانب المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها في شهر آب عام 2019، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز. ورفض مركز السيطرة على الأمراض نشر معلومات حول قرار الإغلاق وذلك «لأسباب تتعلق بالأمن القومي». ما يعني: أن الأرضية لاتهام الولايات المتحدة بالوقوف خلف الفيروس يجري تجهيزها داخلياً، في وقتٍ ترفض فيه الصين حتى الآن الدخول من خلال التصريحات الرسمية على خط اتهام الولايات المتحدة، وهذا السلوك الصيني يعود - بحسب صحيفة غلوبال تايمز الصينية الرسمية- إلى أن بكين تُولي الأهمية الآن إلى مكافحة الفيروس والانتصار في معركة السيطرة عليه، أما الملفات الأخرى التي تحوم حول الفيروس فهي أولوية ثانية سيحين وقتها بعد الانتصار عليه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
965
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 12:39