مَن يرسم الخطوط الحمر لـمنظمة الصحة العالمية؟
على ضوء مساهمة الطغمة المالية العالمية بقسط غير قليل من تمويل منظمة الصحة العالمية، لطالما كانت وما زالت توجد شكوك حول خضوع سياساتها الصحية لأجندات لا تخدم أهدافها المعلنة في نشر أفضل ما يصل إليه العلم والطب للحفاظ على صحة البشر. فيما يلي نرصد بعض الأمثلة.
في أواخر 2007 تمّ طرد الدكتور الياباني آراتا كوتشي مدير برنامج مكافحة الملاريا في WHO من منصبه بعد أن نشر مُذكِّرةً نقدية يشكو فيها من سطوة مؤسسة «بيل وميليندا غيتس» التي تفرض على المنظمة سياسات تقرّرها سلفاً «كعملية داخلية مغلقة، تَبيَّنَ أن لا أحد يستطيع محاسبتها إلاّ نفسها»، حسب مقال نيويورك تايمز، 16 شباط 2008. سبق تنحية الدكتور كوتشي عن قيادته لبرامج مكافحة السلّ بسبب انتقاده لمانحين كمؤسسة روكفيلر. وبعض النظر عن شخص الدكتور كوتشي ودوافعه، لكنه يذكر معلومة مهمة تظهر المفارقة الرأسمالية التي تجعل المتحكمين بالثروة والتكنولوجيا لا يطبّقون ما هو أكثر تقدّماً وفائدة للبشرية، بل كثيراً ما يفضّلون الاستمرار بما هو أكثر تخلّفاً وضرراً.
كمثال، ينتقد د. كوتشي ضغط غيتس على WHO للاستمرار بتطبيق أسلوب عفا عليه الزمن لعلاج الملاريا، ويسمّى «العلاج الوقائي المتقطِّع للرُضَّع» IPTi حيث يُعطى عقار Fansidar بعمر 2 ثم 3 و9 أشهر، رغم ثبوت أنه لا يحمي من الملاريا سوى لشهر واحد فقط، وأن إعطاءه المستمر غير آمن لأنه من مركبات السلفا التي تحمل خطورة تفاعلات تحسسية قاتلة، فضلاً عن تطوير طفيلي الملاريا لمقاومة متزايدة ضدّه. ورغم ذلك واجهت محاولات انتقاد هذا العقار «معارضة شديدة وعدوانية» من علماء مؤسسة غيتس، حسب وصف الدكتور كوتشي.
نضيف على ذلك أنّه حتى في تلك الفترة كان يوجد بالفعل دواء ملاريا آخر أكثر أماناً وفعالية هو أرتيميسينين Artemisinin الذي اكتشفته العالِمة الصينية «تو يويو» عام 1972 من أحد الأعشاب المستخدمة في الطب الصيني التقليدي، ونالت عليه جائزة نوبل 2015، وحصل على ترخيص في الصين منذ 1992 لإنتاجه في مصانع الأدوية وتطبيقه كخط علاجي أوّل ضد الملاريا.
أمّا لماذا سُمِحَ لنيويورك تايمز بكشف قصة الدكتور كوتشي، ونشر هذا الجدال حول علاج الملاريا آنذاك؟ سرعان ما تتبدّد أيّة أوهام حول «الديمقراطية الأمريكية» هنا، عندما ننتبه بأنّ الصحيفة تأخّرت أساساً (حتى شباط 2008) بكشف هذه الفضيحة الطبية والعلمية المتعلّقة بهذا المرض، والتي وقعت في السنة السابقة لذلك المقال. هل كان لتوقيت النشر علاقة بالتمهيد لموافقة وكالة الغذاء والدواء الأمريكية FDA على ترخيص الدواء الصيني الأرتيميسينين أخيراً، إذْ إنّ الوكالة لم تفرج عن ترخيص هذا الدواء سوى في العام 2009!
مبيدات لمستقبل أطفال العالَم!
مثالٌ ثانٍ من موقع «كاونتربنش» في 2 نيسان، عن موضوع سلّطت عليه الضوء الناشطة البيئية «روزماري ماسون»: فمن خلال نفوذ بيل غيتس وشركاه في بزنس المبيدات الكيماوية اختفت أيّة إشارة إلى سمّية هذه المواد على البيئة وصحة الأطفال من تقرير صحي عالَمي متعلّق بالصحة العامة للأطفال (في 18 شباط 2020) أعدّته لجنةٌ مشتركة رفيعة المستوى من منظمة الصحة العالمية، واليونسيف، ومجلة لانست الطبية الشهيرة. جاء التقرير المذكور مليئاً بالعواطف الجيّاشة حول «مستقبلٍ لأطفال العالَم»، لكنّه لم ينبس بكلمة واحدة عن سمّية المبيدات الكيماوية على الأطفال والبشر والبيئة عموماً.
الأكيد أنّه دون تطهير العالَم من ذلك الجزء من العلماء (العلماء المُرتَزَقة) ومِن المجرمين المموِّلين لهم، ودون إعادة تصحيح مسار العلوم كافّة لتخدم تقدّم الإنسانية وسلامتها، لن يكون لأطفال العالَم ولا لكبارِه أيّ مستقبل.
تساهل توصيات المنظمة بسلامة اللقاحات
في أواسط الثمانينات رفعت دعاوى قضائية من عدد كبير من أهالي أطفال أمريكيين لحقت بهم أضرار صحية إثر إعطائهم لقاحات غير مناسبة أو غير سليمة، وتحديداً لقاح الثلاثي المكوّن من الدفتيريا والكزاز السعال الديكي الخَلَوي DTP (وهو يختلف عن DTaP المستخدم حالياً والذي يحتوي السعال الديكي اللاخَلوي). فقامت عدة شركات دوائية بسحب منتوجاتها من لقاح DTP من الأسواق، ليتم بعد ذلك إصدار «المرسوم الوطني لأذيات لقاحات الأطفال» (1986) الذي تُقدَّم بموجبه تعويضات مالية للأسر المتضرّرة من اللقاح.
مع ذلك ما زال المكون الخلوي ضمن اللقاح DTP موجوداً ضمن توصيات منظمة الصحة العالمية، بل وورد في الوثيقة التقنية لمتطلبات المكوّنات الثلاثة لهذا اللقاح الصادرة عنها عام 1990:
«لقاحات السعال الديكي ذات الخلية الكاملة تتألف من مُعَلَّق من الجراثيم المَقتولة، وقد ارتبط حقنها مؤقتاً بتأثيرات جانبية... إنّ هدف التوصيات الحالية هو في آنٍ معاً، التشجيع على الاستمرار بإنتاج كل من اللقاحات اللاخلوية والخلوية التي تثبت فعاليتها وأضرارها الجانبية القليلة على المدى الطويل مع الاستمرار بمزيد من الأبحاث حيثما يكون ذلك مساعِداً». عدا ذلك فإنّ وثيقة منظمة الصحة هذه أدخلت تعديلاً غريباً من نوعه: «تمّ السماح بمرونة أكثر في إجراء اختبارات العَقامة» واختبارات العقامة sterility tests هي التي تجرى على اللقاحات لضمان خلوّها من ملوّثات ممرضة أخرى (جراثيم أو طفيليات...)!
وحتى في التعديلات وفق الملحق التقني الخامس (2003) لم تدخل المنظمة أية تعديلات على هذا القسم الخاص بلقاح السعال الديكي، ما يعني أنّها معتمدة حتى اليوم 2020 رغم ظهور دراسة لفريق باحثين من الدنمارك في المجلة العلمية EBioMedicine عام 2017 خلصت نتيجتها إلى ما يلي:
«وجدنا أن لقاح DTP [الذي يحتوي الشكل الخلوي من السعال الديكي وليس DTaP] يرتبط بوفيات أعلى بخمس مرات مقارنة مع غير المُلَقَّحين. ولا توجد أية دراسات مستقبلية- الأثر prospective حول فائدة هذا اللقاح DTP من ناحية البقاء على قيد الحياة. لسوء الحظ، يعتبر DTP اللقاح الأكثر استخداماً، ويتم استخدام نسبة التغطية باللقاح حتى جرعته الثالثة DTP3 عالميًا كمؤشر على جودة أداء برامج التطعيم الوطنية. ينبغي أن يكون من دواعي القلق أن تأثير اللقاحات الروتينية على الوفيات من بين جميع أسباب الوفاة الأخرى لم يتم اختباره في تجارب عشوائية Randomized Trials. تشير جميع الأدلة المتاحة حاليًا إلى أن لقاح DTP قد يقتل عددًا أكبر من الأطفال لأسباب أخرى رغم أنه يحمي من الدفتيريا أو الكزاز أو السعال الديكي. على الرغم من أن اللقاح يحمي الأطفال من المرض المستهدف، إلا أنه قد يزيد في الوقت نفسه من قابلية الإصابة بإنتانات أخرى غير ذات صلة. دعت مراجعة SAGE المنشورة مؤخرًا إلى تجارب عشوائية... ومع ذلك، في الوقت نفسه، أشارت لجنة IVIR-AC التي فوضت إليها SAGE أن تقوم بدراسات متابعة أنه لن يكون من الممكن فحص تأثير DTP بطريقة غير منحازة. إذا استمر هذا القرار الصادر عن IVIR-AC دون منازع، فقد تظل الدراسة الحالية هي الأقرب على الإطلاق إلى دراسة عشوائية ذات شاهد (نموذج RCT) حول التأثيرات غير النوعية للقاح DTP».
ربما نجد الجواب على الاستغراب الذي أبداه كتاب الدراسة أعلاه، عندما نعلم أن مؤسسة بيل وميليندا غيتس موّلت دراسة السنة الماضية (2019) بعنوان «تتّبع خريطة التغطية بلقاح DTP في إفريقيا 2000–2016» أشبه بدراسة إحصائية لمعرفة ما هي البلدان الإفريقية التي لم تتم بعد تغطيتها جيداً بهذا اللقاح و«ضمان أن يحصل كل الأطفال على الفوائد الصحية الضرورية من اللقاح»، حسب تعبير الدراسة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 965