روسيا في مواجهة التخريب المالي العالمي

روسيا في مواجهة التخريب المالي العالمي

يفجيني إيفانوف- nakanune.ru
ترجمة ندى العبدالله

محاولات نبذ روسيا وإعادتها للقرن التاسع عشر

ظهر فشل النموذج الاقتصادي الروسي مجدداً بعد أيام قليلة على خروج روسيا من اتفاقية (أوبك+) وانخفاض أسعار النفط الذي أدى إلى انخفاض سعر صرف الروبل. وهذا ما يؤثر سلباً على القطاعات الاقتصادية كافةً. وهنا دخلنا في أزمة شاملة « البجعة السوداء» والتي جلبها فيروس كورونا.
وهنا يبرز السؤال: ماذا يفعل البنك المركزي الروسي في هذه الأثناء؟ إن ما تم وصفه بمدير البنك المركزي الأفضل في العالم اختفى في مكانِ ما، ولكن بنك روسيا في هذه الأثناء يهدر في اليوم الواحد عدة مليارات من الروبلات لدعم سعر الصرف. وكما هو واضح للعيان إن هذا الإجراء لم يساعد كثيراً، وأصبح واضحاً للكثيرين أن السياسة الاقتصادية المتبعة عاجزة أمام تهديد أصغر الأزمات، ولكن مع ذلك تبقى هذه العقيدة المتبعة من قبل قادة الدولة راسخة ولا يمسها أحد.
الأكاديمي والاقتصادي المعروف سيرغي غلازييف، تحدث منذ عدة أيام في جلسة خاصة لمنتدى موسكو الاقتصادي، مؤكداً أن في روسيا تتوفر كل الإمكانيات لكي يتحسن اقتصادها بوجهٍ عام وليس فقط تجاوز الأزمة الحالية. وذكرغلازييف أن العالم الآن في مرحلة تغيير الهياكل التكنولوجية والإقتصادية العالمية، وإن هذه المرحلة تتصف بميلها المحبط حيث أن المسارات التكنولوجية ومؤسسات الإدارة السابقة فقدت قدرتها على العمل.
ونتيجة لذلك تولد منظومة جديدة لإدارة التطور الاقتصادي، وكمثال ساطع لهذه المنظومة الجديدة يمكن ذكر الصين. هناك بالتحديد في جنوب شرق آسيا، ظهر نموذج إدارة جديد للتطور الاقتصادي، وهذا سيؤدي لقيام مركز لتطور الاقتصاد العالمي. أما في روسيا بحسب غلازييف، فالوضع مختلف تماماً: «نحن نعيش اليوم في عصر ما بعد مرحلة الصناعة السابقة، التي تميزت بالصناعات الضخمة والشركات العملاقة. وهذه الصناعات والشركات لم يكن من الممكن أن تولد لو كان المال كما هي الحال في بلدنا اليوم. لقد رمى بنا البنك المركزي إلى القرن التاسع عشرعندما كانت الدولة غير قادرة بعد على إنتاج النقود».
بكلام آخر، في البنك المركزي والدوائر المالية الأخرى في روسيا، يجلس أناس لا يدركون أن النقود يجب أن توظف من أجل النمو الاقتصادي وليس فقط لتخزينها في مكان ما في المخبأ.
غلازييف يطرح مثالاً من التاريخ، فيقول: لم يكن من الممكن لأي صناعة أن تتشكل في الاتحاد السوفييتي، لو أن صناع القرار اليوم قادوا البنك الحكومي في زمن الاتحاد السوفييتي، لأن هؤلاء يبنون سياستهم النقدية فقط في اتجاه سحب الأموال من الاقتصاد بحجة مكافحة التضخم، وبعد ذلك ينقلون الأموال إلى الخارج جاعلين بذلك عملياً روسيا مانحاً للنظام المالي العالمي.
«نحن نرى أمثلة عن معجزات اقتصادية خلال الخمسين سنة الماضية. كل معجزة اقتصادية جديدة تترافق مع نمو استثماري أعلى. وكل دولة تلحق بمسار التطور، منتقلة إلى تنمية أسرع، تحقق طفرة استثمارية. لدينا (في روسيا) ما يكفي من الموارد، ولكن لدينا تصدير ضخم لرؤوس الأموال وهي عملية مستمرة حتى الآن. فمن جهة، تسمح سلطاتنا المالية بتصدير الأموال لكل الراغبين على الرغم من أن نسبة الربح في الأسواق العالمية أقل منها في سوقنا المحلي، ومن جهة أخرى، يحافظ البنك المركزي بشكل مصطنع على سعر فائدة مرتفع، ففي السوق المالية اليوم نسب الربح أعلى بثلاث مرات مما يجب أن تكون عليه وفقاً للمؤشرات الموضوعية للنظام المالي والاقتصادي الروسي، ويتم ذلك لصالح المضاربين الماليين».
حدد الباحث والاقتصادي سيرغي غلازييف بعض المستفيدين من هذه السياسة النقدية:
الصناديق الاحتياطية الأمريكية التي تعمل الجهات الرقابية المالية لصالحها.
البنوك الحكومية الكبيرة، التي تعمل عملياً لزيادة أرباح إداراتها.
تجار المواد الخام الذين يسحبون الأموال إلى الخارج أيضاً.
بالمحصلة، الاقتصاد الروسي يعمل بنصف طاقته. الإنتاج الصناعي يمكن أن يتضاعف مرتين إلى ثلاث مرات، في حال تعلمنا فقط كيف نستخدم النقود، أي استثمارها في الإقراض و جذب الاستثمارات. وقد ذكر غلازييف أنه منذ زمن طويل تتم مناقشة استراتيجية التنمية الاقتصادية طويلة المدى، ولكن يبدو أن العقائد الثابتة لا يمكن تحطيمها!
استراتيجية التنمية الاقتصادية طويلة المدى، التي تحدث عنها واقترحها المختصون مراراً في أكاديمية العلوم، تتضمن خمس نقاط أساسية:
النمو العالي للنظام التكنولوجي الجديد، الذي يحقق اليوم ثورة تكنولوجية، حيث إنه ينمو بمعدل وسطي ٣٥٪ سنوياً في الاتجاهات المختلفة. هذا النظام التكنولوجي هو تقنيات النانو وتكنولوجيا هندسة المعلومات والاتصالات الرقمية المضافة.
اللحاق الديناميكي في المجالات القريبة من المستوى التكنولوجي المتقدم وهذه تتطلب حصراً أدوات وآليات حكومية.
تعميق العمل على معالجة المواد الخام، وتحديداً في مجال النفط والغاز.
وهذا التوجه الوحيد الذي تقوم به الحكومة اليوم وهو ما يسمى اللحاق بركب التنمية.
زيادة النشاط المبتكر، حيث توجد العديد من الإمكانيات، وهذا ما تثبته هجرة العقول الضخمة.
لكل نقطة من النقاط السابقة المذكورة توجد أمثلة محددة: صناعات النفط والغاز لا يمكن أن تتم دون نظام القروض. صناعة الطائرات، التي تعاني من ركود لسنوات عديدة، بسبب أن الحكومة افتقرت إلى العقل لتشكيل آلية تأجير للطائرات الروسية. بدلاً من ذلك، لكي ندعم الإنتاج السلعي، نعطي إعفاءً من ضريبة القيمة المضافة ورسوم الاستيراد، ولا نأخذ حتى ضرائب على الممتلكات من الطائرات الأجنبية. وبالنتيجة فإن ضريبة الشركات الوطنية المصنعة للطائرات أعلى بثلاث مرات لنظيراتها المستوردة. كذلك الأمر بالنسبة لاستيراد التكنولوجيا والتركيب الصناعي، حيث المستثمرون الأجانب يقومون بعمل ما نستطيع أن نعمله نحن أنفسنا من دونهم، ولكننا لا نملك الرغبة بذلك. وبالطبع «هجرة الأدمغة» للخارج، هي عملية راسخة منذ زمن طويل عن طريق الشركات الأجنبية العملاقة.
كذلك يذكر غلازييف أن المشكلة الأساسية للركود تكمن في أن بنك روسيا يعمل لخدمة مصالح المضاربين الماليين. ومع ذلك لا يجدر بنا أن ننسى أن هبوط سعر النفط كان مفيداً أيضاً لبعض دوائر السلطة: «هذا مفيد للأشخاص المسؤولين في الحكومة عن تشكيل جزء الإيرادات من ميزانية الدولة، لأنه في خيالهم كلما كان سعر الصرف أقل كلما ازدادت العائدات النفطية، ومقابل نفس الكمية من النفط سيكسبون أموالاً أكثر من الأموال التي اكتسبوها بسعر صرف أعلى. وبما أن نصف إيرادات الميزانية تتشكل من العائدات النفطية، فلدى هؤلاء المسؤولين في الدولة منطق يتجلى بأنه لا شيء يدعو للقلق، سعر النفط ينخفض، لندع سعر الروبل ينخفض أيضاً بنفس المقدار. وبالجهة المقابلة إذا لم تقوموا بفرض قيود على العملة، فلا توجد طريقة لمنع المضاربين من اللعب ضد الروبل. لدينا ثلثا سوق الاستثمار المالي من الأجانب، هؤلاء بأمر من واشنطن، يمكنهم بسهولة أن يتلاعبوا بسعر الصرف إذا لم يضمن البنك المركزي استقرار سعر الصرف».

في ختام حديثه، حدد سيرغي غلازييف السبب الرئيسي الذي يكمن وراء عدم تغير أي شيء في الوضع الاقتصادي الحالي. الباحث الأكاديمي يؤكد أنه لتحسين الوضع الاقتصادي في روسيا توجد كل الموارد الضرورية حتى في شروط سعر منخفض للنفط وفي ظروف روبل ضعيف. ولكن نفتقر لمورد واحد هام جداً ولم يتحدث عنه أحد على كل المستويات إنه الإرادة السياسية: « ما العمل؟ من الناحية النظرية مفهوم ما علينا فعله ومفهوم من يعيقنا لفعل ذلك، فهناك مصالح اقتصادية للبعض تعرقل أي تغيير في السياسة الاقتصادية، والتغلب على هذه المعوقات ليس عملية سهلة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
958
آخر تعديل على الإثنين, 23 آذار/مارس 2020 13:26