الأمل بالخلاص من منظومة الموت: عالم آخر ممكن

الأمل بالخلاص من منظومة الموت: عالم آخر ممكن

الخداع العالمي في أعلى مستوياته: بينما يضطر الملايين من الناس للانعزال في منازلهم، يجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع سيلٍ من الدعاية التي تزعم أن السبب الأساسي في الأزمة الاقتصادية العالمية التي نعيشها هو فيروس كورونا، الفيروس المتهم بحصد آلاف الأرواح حول العالم، دون أن يعذّب أحد نفسه عناء السؤال عن دور المنظومة الرأسمالية في ارتفاع عدد الوفيات، وعن تفسير ارتفاع أعداد الضحايا في إيطاليا مقارنة بنسب الوفيات في دولة بحجم الصين.

إن تدقيقاً في السياسات النيوليبرالية التي تسود العالم، والتي تضع الربح محدداً أساسياً قبل أي اعتبارٍ آخر، يسمح لنا بالكشف عن الطبيعة المميتة لهذه المنظومة. حيث لم تعد كلمات مثل «التقشف» و«الدَّين العام» كلمات مجرّدة بالنسبة لملايين الناس، وبات مفهوماً ما الذي تعنيه «وصفات» وشروط صندوق النقد والبنك الدوليين والمؤسسات المالية الكبرى في العالم، التي كانت تشترط على الدول الأفقر أن تخفض الإنفاق على القطاع الصحي وتقلل عدد العاملين فيه وتحوّل الاستثمار في البنى التحتية والمعدات الطبية إلى استثمارات أكثر ربحاً، وغيرها الكثير من الشروط التي تدفع بمواطني هذه الدول نحو الهلاك بشكل مباشر وغير مباشر.

ضربة في وجه الغرب

تعدّ أوروبا الآن مركزاً لانتشار فيروس كورونا، حيث تفيد الأنباء بارتفاع عدد الوفيات في إيطاليا وحدها ليتجاوز نظيره في الصين. والملفت في طريقة تعاطي أوروبا مع المرض، هو أن هذا الأخير استطاع أن يُعرّي تماماً الأكاذيب الدعائية حول «التضامن الأوروبي». وهنا يكفي أن نذكر أنه عندما أبلغت إيطاليا عن وجود قفزة في عدد الإصابات لديها قبل أسابيع، قابلت الدول الأوروبية ذلك بالتجاهل، ووجدت إيطاليا نفسها وحيدة تقريباً في مواجهة المرض، وصولاً إلى مرحلة الارتفاع الكارثي في أعداد الوفيات لديها، والاضطرار لاختيار من سيحصل على الرعاية الطبية من بين المصابين ومن سيترك لمصيره في ظل شح اللوازم الطبية.
نعي التضامن الأوروبي جاء بكلماتٍ أكثر حدّة على لسان الرئيس الصربي، ألكسندر فوسيتش، الذي قال: إن أوروبا امتنعت عن بيع بلاده اللوازم الطبية الضرورية، مبرزاً الفارق النوعي بين النمط الأوروبي في العلاقات، ونموذج الصين التي أرسلت شحنات كبيرة من المعدات، وفرقاً طبية لمكافحة المرض في صربيا وغيرها من الدول الأوروبية. ومن المثير للانتباه أن «الإعلام المركزي الأوروبي» لم يستطع هذه المرة أن يختبئ خلف قشرة «الكفاءة والمهنية» المعتادة، وانتهج في تغطيته للمجريات نهجاً أكثر سوءاً بمرات من نشرات الأخبار في دول العالم «المتخلف»: بينما كانت أعداد الضحايا تسجل قفزات كبيرة، كان الإعلام الأوروبي يؤكد لمتابعيه أن روسيا تتدخل من خلال نشر معلومات مضللة حول انتشار فيروس كورونا في أوروبا...

دروس كورونا

أعاد فيروس كورونا إلى الأذهان الحقيقة بأن الحياة البشرية في هذا العصر متشابكة ومترابطة، مترابطة إلى ذلك الحد الذي يجعل من مجرد النظر إلى أنفسنا على أننا أفراد أو دول متمايزون ومنعزلون نوعاً من الوعي الزائف، وأن هذا الترابط الذي نعيش فيه، يفرض علينا أن نرفع عالياً قيم التضامن العالمي. وجدد الفيروس الفكرة القائلة بأن هنالك أشياءً في هذا العالم لا يمكن لها أن تكون سلعاً، وأن تسليعها القائم اليوم يتناقض في الجوهر مع الحقوق الطبيعية للكائن البشري. كما كشف الحقيقة بأن هذه المنظومة التي تسود العالم والتي تستطيع أن تنفق تريليونات الدولارات على التسليح، ومثلها لإنقاذ البنوك والنخب المالية، هذه المنظومة تقف عاجزة في حالات الطوارئ الإنسانية، منظومة أقل ما يقال فيها: إنها منظومة انعدام الأمن.
أما الفكرة التي تنحفرُ في الوعي العام اليوم، فهي أنه حين يطاردنا الموت لن نلجأ إلى البنوك ولا للشركات الخاصة، إنما نحتاج، موضوعياً، إلى جهاز دولة قوي يضع مصلحة الناس فوق أي اعتبار، جهاز دولة أثبتت التجربة أن وجوده ضمانة للحفاظ على حياة الملايين من البشر من أنياب قوى السوق والشركات الكبرى.

وسائل عدة للقتل

أخيراً، ثمة نقطة لا بد من الوقوف عندها، إذْ أثارت طريقة استجابة المنظومة النيوليبرالية لأزمة فيروس كورونا غضب الكثيرين، وهذا مفهوم، لأن خطر الفيروس واضح للعيان، والناس عموماً لا يساومون في المسائل التي ترتبط ببقائهم على قيد الحياة بهذا الوضوح. ولكن كم من الأعمار تسرق منّا هذه المنظومة و«نحن في غفلة»؟
تغيّر المناخ، أزمات الدورات البيولوجية، تلوث المحيطات، التغيرات في نوعية التربة، والتلوث الكيميائي الصناعي، الحروب، فقدان الضمان الاجتماعي والصحي، التدمير الممنهج للبيئة، اعتماد الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة وعرقلة التوجه نحو الطاقة النظيفة والمتجددة التي تتناقض في جوهرها مع فكرة السعي نحو الربح الأقصى... وغيرها الكثير من العوامل التي ينتج عنها تقليل وسطي العمر لدى المليارات من البشر في جميع أنحاء العالم.
وعندما نقول: إن وضع حدّ للآثار الكارثية الناجمة عن الممارسات المذكورة آنفاً يشترط بالضرورة تكبيل منظومة الربح الاستغلالي، فإن ذلك يعيدنا – مرة أخرى- إلى مقولة: «إما الاشتراكية وإما الفناء». في الواقع، نحن نقف عند مفترق الطرق هذا، وإن نظرنا إلى مستوى الدمار الذي سببته الرأسمالية للبشرية والكوكب من جهة، وإلى وصول هذه الرأسمالية ذاتها إلى حائطٍ مسدودٍ من جهةٍ أخرى، يمكن القول: إننا نضع قدماً في الخيار الأول وأخرى في الخيار الثاني، وعلى أساس الخطوة اللاحقة يتحدد مستقبل البشرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
958
آخر تعديل على الإثنين, 23 آذار/مارس 2020 13:25