كورونا والقيم الاشتراكية والرأسمالية

كورونا والقيم الاشتراكية والرأسمالية

بينما يواجه العالم عدواً مشتركاً حمل هذه المرة اسم فيروس كورونا، ينفتح الباب على مقارنة في غاية الأهمية بين استجابة القيم الاشتراكية لحالات الطوارئ الصحية واستجابة نظيرتها الرأسمالية. وتساعد هذه المقارنة في الإجابة عن السؤال: أي من أنظمة الحكم تتوافق مع الحاجات الضرورية للجنس البشري؟

في البداية، عندما نقارن بين الصين والدول الغربية، قد تخلق تسمية النموذج الصيني بالنموذج الاشتراكي بعض الالتباس والتحفظ، وهنا لا بدَّ من التنويه أنَّ الهدف من هذا المقال هو مقارنة طريقة التعاطي مع الأوبئة بين الأنظمة التي تضع الربح اعتباراً أساساً فوق كل اعتبار، وتحد من تدخل جهاز الدولة في إدارة المجتمع والاقتصاد، وبين الأنظمة التي تدافع عن حضور ودور قويين لجهاز الدولة، وتتخذ من مصلحة الناس اعتباراً فوق اعتبارات الربح ضيقة الأفق. وفي الحالة الصينية، يمكن للقارئ أن يطلق التسمية التي يراها مناسبة على نظام الحكم في الصين طالما أن هذا الفارق الجوهري (بين من يعمل بهدف الربح ومن يعمل لمصلحة الناس) واضح لديه.
تتيح لنا التجربة العالمية لفيروس كورونا أن نضع جانباً كل ما أنتجته الدول من كتب وتقارير تشرح فيها فلسفتها في إدارة الأزمات، وأن نمعن النظر في التجربة الملموسة التي تخوضها دول العالم اليوم على اختلاف أنظمة الحكم فيها. والملفت والشيّق في آن معاً هو أن هذه التجربة، ورغم مرارتها، قد جرّدت الدول النيوليبرالية الغربية من هيبتها، وكشفت حتى العظم لا عن أوجه القصور في استجابة هذه الدول للجوائح، بل عن عطبٍ بنيوي في نظامٍ لا يقيم وزناً لصحة مواطنيه ومعيشتهم.

سقوط أسطورة «أفضل نظام رعاية صحية»

الحقيقة التي أثبتتها التجربة خلال الأشهر الماضية هي أنه ليس لدى الولايات المتحدة، ولا أية دولة نيوليبرالية أخرى، أي من الأنظمة أو البنى التحتية التي تسمح لها بإنجاز ما حققته الصين لمكافحة فيروس كورونا. في الولايات المتحدة مثلاً، حيث جرى ربط نظام الرعاية الصحية بالربح والربح فقط، وتم ترويجه كأفضل نظام رعاية صحية على مستوى العالم، لم تستطع البلاد تأمين أكثر من بضعة آلاف اختبار لفيروس كورونا، ويشتكي العاملون في مجال الرعاية الصحية من أنهم لم يتلقوا التدريب المناسب لحماية أنفسهم أثناء علاج المصابين بالفيروس، كما أن تكلفة الخضوع للاختبار يتحملها المريض نفسه بالنسبة لملايين الأمريكيين الذين لا يملكون تأميناً صحياً، مع العلم أن التكلفة وصلت في بعض الحالات إلى 3270 دولار أمريكي.
وأمام هذا الواقع، يجد المواطنون الأمريكيون أنفسهم في طوابير طويلة لتلقي خدمة ينبغي أن تكون مجانية (بالمناسبة، ظلّت كلمة طوابير لعقودٍ طويلة ركناً أساسياً في البروباغندا الغربية الموجّهة ضد الأنظمة ذات التوجهات الاشتراكية). في المقابل مثلاً، أكدت منظمة الصحة العالمية أنه لدى الصين إمكانية اختبار 1,6 مليون شخص، كل أسبوع، مجاناً.

الصين وجهاز الدولة القوي

كان رد فعل الصين إزاء الوباء حاسماً وسريعاً؛ بمجرد أن اتضحت خطورة الوضع، انكبت الدولة على تأمين الاختبارات، واختبار اللقاحات، وشيّدت مستشفيات مؤقتة جديدة في وقتٍ قياسي، وأمّنت خدمات الكهرباء والاتصالات والتدفئة حتى بالنسبة للحالات التي لم تستطع تسديد فواتيرها، أما عمال الصناعات الحكومية فأرسلوا إلى منازلهم بإجازاتٍ مدفوعة الأجر، بينما أبقي على صناعات السلع الأساسية والإمدادات الطبية وتم منع احتكارها.
وأثبتت إجراءات الحجر الجماعي للمناطق الموبوءة، والحجر الصحي للمرضى المصابين بالفيروس، فعالية عالية في السيطرة عليه، وذلك بفضل الدور القوي لجهاز الدولة في إدارة المجتمع، وبفضل النظام الذي رمى حسابات الربح والخسارة الاقتصادية جانباً، ووضع مسألة التخلص من الفيروس اعتباراً أساسياً في إدارته للمعركة. والنتيجة هي أنه حتى في حسابات الربح والخسارة خرجت الصين رابحة على المدى الطويل بالمقارنة مع ضيق الأفق النيوليبرالي الذي من المتوقع أن تتكبد دوله خسائر فادحة أكثر مما تتكبده حالياً نتيجة امتناعها عن تحمل بعض الخسائر الاقتصادية قصيرة الأمد لمصلحة شعوبها. إنَّ مثل هذا القرار السياسي الواضح لدى الصين، وبما تتمتع به دولتها من دور وحضور قوي، هو ما سمح للبلاد أن تنتقل من مواجهة الفيروس على أراضيها، إلى مساعدة غيرها من الدول على مواجهته.

ما وراء حملة الرعب الغربية

خلال الأسبوع الماضي، نحت الدول التي انشغلت خلال الأيام الأولى لانتشار الفيروس بانتقاد الصين واعتبار الفيروس فرصة اقتصادية في وجه بكين منحى جديداً، هو منحى التباكي وإرعاب الناس إزاء انتشار الكورونا في هذه الدول. والملفت في حملة الرعب هذه هو انطلاقتها في وقتٍ واحد في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وغيرها العديد من الدول الأوروبية، رغم التفاوت في درجة انتشار الفيروس فيها.
الهدف المركب من حملة الرعب هو التغطية أولاً على النتائج الكارثية المرتبطة بالأزمة الاقتصادية العالمية وأسعار النفط وازدياد الدِّين العام الأمريكي بنسب كبيرة، وثانياً، التجهيز لحملة قمع بوليسي «ناعمة» تضمن بقاء الأنظمة بعيدة قدر الإمكان عن انعكاسات الانهيار الاقتصادي شعبياً، بحيث تضمن حملة الرعب إبقاء الناس في منازلهم ومنع التجمعات بكافة أشكالها، وكأنَّ هذه الأنظمة تقول لشعوبها: عليكم الذهاب إلى العمل لأننا لن نعطيكم إجازات مدفوعة الأجر، وفيما عدا ذلك، عليكم التزام منازلكم لأنكم «ستفقدون الكثيرين من أحبائكم»، أما الانهيار الاقتصادي فبسبب الكورونا، وليس بسبب وصول سياساتنا إلى حائط مسدود لا سمح الله!
كشف فيروس كورونا عن الطبيعة الحقيقية للنُّظم الاقتصادية في العالم، وأوضح أنّ بعضها يُقدّر عالياً الصحة والحياة البشرية قبل أيِّ شيء آخر، وبعضها الآخر، يرى الموت أكثر ربحاً من تغيير السياسيات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
957
آخر تعديل على الإثنين, 16 آذار/مارس 2020 12:26