هل ستنطلي علينا «خدعة»  بافلوف؟.. دعوة لإعادة التفكير...

هل ستنطلي علينا «خدعة» بافلوف؟.. دعوة لإعادة التفكير...

بينما يختلس العالم النظر من وراء أبواب مواربة، مترقباً وواقفاً على رؤوس أصابعه، مخافة الطاعون الجديد، يستمر طاعون قديم في نهش الأفئدة والأرواح...

ربما من المجدي، في ساحة التأمل «المجاني» المتاحة داخل الحجر الاختياري، وتحت وقع زلازل كبرى تقلب العالم رأساً على عقب، وفي ظل وقائع غير قابلة للطعن، أن نعيد التفكير في بضعة «مفاهيم» كبرى هيمنت على الكوكب خلال ثلاثين عاماً مضت...

الاختزال والكسل العقلي

في تجربة ربما تكون الأكثر شهرة في مضمار البيولوجيا، يقوم بافلوف بالربط بشكل متكرر بين منبهين، يسمي أحدهما منبهاً ثانوياً أو صناعياً والآخر طبيعياً؛ يقدم قطعة لحم (منبه طبيعي) للكلب موضع التجربة، ولكن قبل ذلك يقرع له جرساً (منبه ثانوي). الانعكاس الطبيعي لتقديم قطعة اللحم للكلب هو ارتفاع مستوى إفراز اللعاب تحضيراً لعملية المضغ. بعد تكرار الترابط بين قرع الجرس ومن ثم تقديم قطعة اللحم، لاحظ بافلوف أنّ عملية إفراز اللعاب باتت تبدأ مباشرة بعد قرع الجرس وقبل تقديم قطعة اللحم، بل إنّه جرَّب بعد ذلك أنْ يقرع الجرس دون تقديم قطعة اللحم مرات عديدة، وبقي إفراز اللعاب مستمراً، ثم بدأ بالتناقص بعد عدة تكرارات. أي إنّ المنبه الثانوي (قرع الجرس)، بات مرتبطاً عند الكلب موضع التجربة بالمنبه الطبيعي (قطعة اللحم)، بحيث أصبح المنبه الثانوي يلعب دور المنبه الطبيعي. سمى بافلوف هذا الفعل الانعكاسي (المقصود بالأفعال الانعكاسية على العموم، الأفعال اللاإرادية) بالفعل المنعكس الشرطي.
رغم ما تبدو عليه التجربة من البساطة، إلا أنّ الاستنتاجات التي يمكن بناؤها عليها تحمل من الأهمية ما قد يغير من طريقة نظر الإنسان إلى نفسه وإلى العالم، وبالذات طريقة نظره وتقييمه لكيفية ومدى دقة فهمه للعالم المحيط به.
علينا بداية أن نجيب عن سؤال: لماذا بات الجرس يثير لعاب الكلب رغم أنّ ذلك ليس استجابة «طبيعية»؛ إذ لا حاجة لإفراز اللعاب عند سماع صوت الجرس. الجديد في المسألة هو أنّ صوت الجرس أصبح مقترناً بقطعة اللحم. لكن ما الذي يعنيه ذلك على المستوى العصبي؟ على مستوى دماغ الكلب؟ إنه يعني بالضبط أنّ دارة عصبية (شبيهة بالدارات الكهربائية)، قد نشأت نتيجة تكرار الترابط بين الجرس وقطعة اللحم، دارة نشأت عبر تطور الاستطالات العصبية لأجسام خلايا عصبية محددة ارتبطت مع بعضها البعض عبر مشابك عصبية كيميائية. بكلام آخر، فإنّ دماغ الكلب قد أنشأ دارة مختزلة لأداء الوظيفة المطلوبة، عبر آليات من ضمنها آلية كيميائية عصبية تسمى التيسير المشبكي:
(قبل التعلم): قطعة لحم ---إفراز لعاب
(خلال التعلم): صوت جرس + قطعة لحم إفراز لعاب
(بعد التعلم): صوت جرس--- إفراز لعاب
إذا تأملنا عملية الاختزال هذه، ولكن على مستوى التفكير البشري، فإنها عملية وإنْ كانت مفيدة في حالات عديدة، إلَّا أنها تحمل خطورة شديدة في الوقت نفسه.

 

رؤية الإنسان لأفعى مثلاً باتت تحفز إفراز هرمون الخوف والنشاط (الأدرنالين) بشكل مباشر. رغم أنّ أول تماس بين الأفعى والإنسان لم يكن له هذا الأثر، ولكن خطر هذا الكائن على الإنسان عبر التجربة الطويلة كرّس حالة الخوف منها، حتى تلك الأنواع غير السامة من الأفاعي باتت تثير ردة الفعل نفسها لدى الإنسان. وكتمهيد لما نريد الوصول إليه، يمكننا القول مبدئياً: إنّ الربط المتكرر بين أي منبهين، أحدهما ضار والآخر غير ضار أو حتى نافع، سيدفعنا للتعامل مع النافع على أنه ضار أو العكس، ودون أن ننتبه لذلك، بل يجري الأمر وكأنه مسلمة «طبيعية» لا تحتاج لأي تفكير، بل تحتاج إلى استجابة «انعكاسية/ لا إرادية» سريعة وبسيطة.

فرويد و«التداعي الحر»

في مرحلة تاريخية قريبة من تلك التي أجرى فيها بافلوف تجربته، تناول كل من فرويد وغرامشي المسألة نفسها من حيث الجوهر، ولكن من زوايا مختلفة ومن وجهة نظر العلوم الاجتماعية. ركّز فرويد على ما سمّاه «التداعي الحر» في التحليل النفسي كبديل للتنويم المغنطيسي، والذي يقوم بمجمله على فكرة أساسية هي محاولة العودة مع المريض، ومن خلال أفكار المريض بالذات وكلماته ورسومه، خطوة وراء خطوة نحو السبب الأساس للمشكلة، حيث يبدأ المريض تداعيه الحر أمام المعالج ابتداء من الوقت الحاضر، من المشكلة الراهنة، أو من أي وقت يشاء، وبأقل قدر من التدخُّل من قبل المعالج... وعبر هذا التداعي، تظهر الارتباطات المتشكلة في عقل المريض بين حوادث ورموز ومشاعر لا يربط بينها «منطقياً» أي رابط واضح، لكنَّ تجارب المريض الحياتية بالذات، هي التي خلقت تلك الروابط. ويكمن العلاج في كثير من الحالات وخاصة (حالات الفوبيا)، في فكّ ذلك الارتباط... هذا بمجمله، يشبه بطريقة ما الارتباط بين جرس بافلوف وإفراز اللعاب.
من وجهة نظر فرويد فإنّ الأفكار تتوزع في عقل الإنسان بين مجالين: الوعي واللاوعي. يمكننا بشكل مبسَّط أن نطابق بين (الأفعال الإرادية/ الأفعال الانعكاسية) على مستوى الفيزيولوجيا العضوية التي اشتغل عليها بافلوف، وبين (الوعي/اللاوعي) على مستوى الفيزيولوجيا النفسية التي عمل عليها فرويد؛ فالوعي في هذه المقاربة يمثل الحدود التي يسيطر عليها الإنسان، والتي يعتقد أنه يصيغ من خلالها، ومن خلالها فقط، قراراته وأحكامه المختلفة. ما يجادل فيه فرويد هو أنّ عملية اتخاذ القرار وتشكيل المشاعر، وإنْ كانت تمرُّ عبر الوعي، إلَّا أنّ تأثيراً كبيراً وربما حاسماً فيها، يمرُّ بالذات عبر اللاوعي، حيث توجد تجارب الإنسان المختزنة.
علوم الدماغ الحديثة تؤيِّد استنتاجات فرويد من حيث المبدأ، وإنْ كانت تعيد صياغتها بأشكال أكثر دقة وتنسف بذلك أقساماً عديدة من طروحات فرويد نفسه. تعتمد علوم الدماغ الحديثة بشكل أساسي على دراسة النشاط الكهربائي للدماغ، وتربط النشاط الكهربائي بالنشاط الحاثّي الذي يتمتع بتأثير حاسم في تكوين مشاعرنا وردود أفعالنا وحتى في آلية اتخاذ قراراتنا. وقد ذهب بعض العلماء إلى المطابقة بين (لاوعي فرويد) الذي يبدو مفهوماً عائماً وغير محدد، وبين الهيبوثلاموس (تحت الوطاء)، وهو قسم من دماغنا وضَّحت الدراسة الكهربائية والكيميائية للدماغ أنه مركز تسيير نشاط الغدد الصماء في الجسم، أي مركز تنشيط وتثبيط إفراز الهرمونات على اختلافها.

فكرة على الهامش

قبل تناول مقاربة غرامشي للمسألة، والتي ستنقلنا إلى مجال مختلف... إلى مجال التعامل مع المفاهيم والأفكار، قد يكون مفيداً في السياق أن نتوقف قليلاً عند فكرة «الانعكاس» بمعناها الفلسفي.
الوعي هو «انعكاس» العالم الخارجي في أدمغتنا، الانعكاس هنا ليس انعكاساً بسيطاً كذلك الذي نراه في المرآة، بل هو انعكاس شديد التعقيد. أي شيء في العالم الخارجي يقع في مجال حواسنا ينعكس في أدمغتنا عبر عدد هائل من الخواص: الشكل- الحجم- الحركة- الرائحة- الوزن- الكثافة- الملمس... إلخ. أهم أشكال الانعكاس وأكثرها رقياً، ليس ذلك الذي يقتصر على الإحساس والذي يسميه العلماء «نظام الشارات الأول»، بل الذي ينطوي على الإدراك «نظام الشارات الثاني»، والذي ينفذ من ظواهر الأشياء إلى جواهرها إلى القوانين والروابط التي تحكمها. وهذا النظام هو خاصة الوعي الإنساني، والتي تميزه عن كل وعي آخر. آلية هذا الوعي هي التجريد، وأداته هي المفهوم المجرد (وحامل المفهوم المجرد هو اللغة- الكلمات). حين نقول كلمة شجرة، فإننا لا نقصد شجرة بعينها، بل نقصد أيةَّ شجرة أينما وجدت، المهم هو تحقيقها لمجموعة خواص عامة.
مسألة الانعكاس في الإطار الفلسفي ليست موضع توافق، إذ تنقسم المدارس الفلسفية بشكل حادٍّ حولها؛ فالمدارس اللاعرفانية التي تقول بعدم إمكانية معرفة العالم، ترفض موضوعية الانعكاس من الأساس. بالمقابل فإنّ المادية الديالكتيكية تراه مسألة أساسية وموضوعية. الطريف في تجربة بافلوف حول الانعكاس الشرطي، هو أنّ القوانين الطبيعية لا تنعكس في أدمغتنا كأفكار مجردة فقط، بل حتى أنها تنعكس بشكل مادي ملموس، إلى هذا الحد أو ذاك، عبر مشابك كيميائية وترابطات عصبية ينشئها الدماغ استجابة للواقع... وهذا ما ثبت عملياً في نموذج العالم الكسندر لوريا المسمى نظام المحللات «system of analyzers»

 

غرامشي

نعود إلى الفكرة الأساسية التي نحاول مقاربتها: فكرة الاختزال والكسل العقلي. ينعكس العالم الخارجي في أدمغتنا ووعينا عبر جملة من الروابط الملموسة والمجردة، الكيميائية العصبية والمفاهيمية. نستخدم هذا الانعكاس في عملية التفكير وفي عملية صياغة مشاعرنا وقراراتنا، ولكن هل يمكن أن تكون عملية الانعكاس هذه خاطئة؟
الإجابة الواضحة هي نعم! جملة المعارف الخاطئة التي كانت سائدة في الماضي حول الكون والفلك والفيزياء والكيمياء والطب وغيرها، والتي يجري تصحيحها مع تطور البشر وتطور العلم، تثبت أنّ الانعكاس يمكنه أن يكون خاطئاً. الطريقة الأهم في تصحيح الانعكاس هي التجربة؛ بالتجربة نختبر صحة معارفنا مرة وراء مرة، وندققها ونوسعها بشكل مستمر.
لكنَّ هنالك جانباً آخر مهمٌ ينبغي الانتباه إليه: الكسل العقلي والاختزال... يميل الإنسان إلى تبسيط الروابط الواقعية لتبسيط وتسهيل التعامل معها، وضمن هذه العملية يتعامل مع روابط ظرفية، أي غير مقوننة، مفترضاً أنها صحيحة دائماً.
عمل غرامشي على هذا الجانب بشكل معمق؛ تناول تأثير «المصطلحات» و«المفاهيم» في تكوين وعي الفرد. ويمكننا أن نستند إلى فكرته «لكي تعيد صياغة وعي أحدهم بالاتجاه الذي يخدمك، أنت بحاجة فقط إلى إدخال بعض المفاهيم الخاطئة».
مثلاً، لكي تسيء إلى «الاشتراكية» لست بحاجة إلى تفنيدها فكرة وراء فكرة (بالأحرى ليس في مصلحتك فعل ذلك من وجهة نظر الرأسمالية)، كل ما عليك فعله هو أن تمسك إحدى الأفكار المحورية فيها وتقوم بربطها بشكل مستمر وعنيد بظاهرة سلبية. بهذه الطريقة تكون قد دخلت إلى منظومة الروابط المتعلقة بفكرة الاشتراكية وخلقت ضمنها طريقاً فرعياً سهلاً باتجاه رفضها.
يمكنك مثلاً أن تتناول مسألة الملكية العامة لوسائل الإنتاج. الاشتراكية تقول بوجود ثلاثة أنواع للملكية (عامة، خاصة، فردية)، ما يجب إلغاؤه هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإلغاؤه يؤدي بالضرورة إلى توسيع الملكية الفردية إلى حدود قصوى لم تشهدها البشرية بعد. لكي نشوِّه هذه المسألة كلَّها، نقوم بما يلي: أولاً نسقط تعبير وسائل الإنتاج، ونقول فقط: الملكية العامة. ثانياً، نقول إنّ الملكية العامة تتضمن كل شيء بما في ذلك الملكية الفردية، ونبني على ذلك استنتاجاً يقول إنّ الملكية العامة تعني تجريد الفرد من أية ملكية فردية، وجعل كل ملكية أياً تكن في يد الدولة، بما في ذلك ملابسك التي ترتديها وبيتك وسيارتك وإلخ... بهذه الطريقة نكون قد خلقنا «جرساً» ضمن منظومة الأفكار الاشتراكية، جرساً وظيفته نقل التفكير خارج هذه المنظومة وباتجاه معادٍ ورافض لها.
فلنتأمل بعض الأمثلة السياسية و«الأيديولوجية» المعاصرة، في ضوء مسألة الاختزال والكسل العقلي، وفي ضوء التجربة الراهنة لفيروس كورونا...

دور الدولة

طوال عقود متتالية، وبشكل خاص ابتداءً من نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، أي مع ظهور النيوليبرالية على يد تاتشر وريغان، جرى تعميم فكرة أن أي تدخل لجهاز الدولة هو تدخل ضار، وأنّ وجود جهاز دولة قوي يعني بشكل أوتوماتيكي: (القمع، الشمولية، حد الحريات الفردية، التخلف... إلخ). والمسألة في جوهرها لم تكن أبعد من أنّ الشركات العملاقة العابرة للقارات، باتت ترى في جهاز الدولة معيقاً لحركتها وركضها باتجاه الربح، ولذلك فقد فرضت تحييده وإضعافه.
أمام وباء كورونا، ظهر أنّ ضعف جهاز الدولة، وسيطرة الشركات التي لا تعترف بأية قيمة سوى الربح، جعل من المنظومة الغربية بأكملها، منظومة ضعيفة هشّة عاجزة عن التعامل مع الأزمة. الشركات هي من تحدد هل يبدأ الحجر أم لا، هل الكمامة مفيدة أم لا. جونسون يقول للبريطانيين الكثير من العائلات عليها أن تستعد لفقدان أحبائها، ولكن في الوقت نفسه لا يغلق المدارس ولا يَعد العمال بأية تعويضات في حال تغيبوا عن العمل! البنك الفيدرالي في الولايات المتحدة يضخ 1,5 ترليون دولار في البورصة في إطار التصدي لأزمة أسعار النفط، في حين تخصص الحكومة الأمريكية 8,3 مليار دولار للتصدي لكورونا! لتوضيح الرقمين أكثر (مقابل كل 180 دولار لعلاج أزمة الشركات الكبرى، تقدم الحكومة الأمريكية دولاراً واحداً لعلاج الناس من كورونا).
على الضفة الأخرى، حيث دور الدولة القوي، أي في الصين؛ تُوقف الدولة كل نشاط تجاري وصناعي، وتتكفل بكل التعويضات، الفحوصات والعلاج مجانية بالكامل، على المواطن فقط أن يبقى في منزله، وأن يتبع الإرشادات الصحية، رغم أنّ الخسارة الإجمالية قد تجاوزت 350 مليار دولار خلال شهرين.

دعوة لإعادة التفكير

المثال الملموس أعلاه، ليس إلَّا مثالاً واحداً من بين مئات. هي إذاً دعوة لتجاوز الكسل العقلي المستسلم لمجموعة من المفاهيم الخاطئة. في السياق ينبغي إعادة التفكير بجملة من المفاهيم، وبالطريقة التي نتعامل فيها معها: «الليبرالية، العولمة، الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان...»، وغيرها وغيرها...

معلومات إضافية

العدد رقم:
957
آخر تعديل على الإثنين, 16 آذار/مارس 2020 12:38