حول أيّة «منطقة آمنة» جرى الحديث في موسكو؟
سعد صائب سعد صائب

حول أيّة «منطقة آمنة» جرى الحديث في موسكو؟

تلقّى البعض التصريحات الروسية خلال المؤتمر الصحفي المشترك للرئيسين الروسي والتركي في موسكو يوم الثلاثاء الماضي 27 آب، والمتعلقة بـ«المنطقة الآمنة»، باعتبارها صدمة غير متوقعة وغير مفهومة، خاصة بعد التصريحات الروسية المتكررة، بأنّ أي وجود أجنبي على الأرض السورية لن يكون شرعياً بغير التنسيق مع الحكومة السورية.

أظهر بوتين خلال المؤتمر «تفهمه» للسلوك التركي تجاه «المنطقة الآمنة»، بل وأكثر من ذلك، اعتبر أنّ السعي بهذا الاتجاه يتوافق مع الأمن الوطني التركي، ويساعد على منع من يحاولون العمل على تقسيم سورية.

أبسط التفسيرات، وأكثرها رواجاً، هي تلك التي تقول بصفقة روسية تركية، «تحصل» بموجبها روسيا على مساحات معينة من إدلب وريفها، أو حتى إدلب كلها، بمقابل حصول الأتراك على نفوذ ووجود عسكري في الشمال الشرقي. بل ويذهب البعض في خياله حد الحديث عن توافق روسي أمريكي تركي من تحت الطاولة تجري وفقه «إعادة توزيع للنفوذ»...


حدود الصراع
إنّ أية محاولة جدّية لفهم التصريحات الأخيرة وسياقاتها، محكوم عليها بالفشل إذا انطلقت من زوايا رؤية ضيقة ومحدودة بحدود الوضع السوري؛ لأنّ قراءة التصريحات والمواقف الخاصة في سورية وحدها، وإسقاط المواقف والتصريحات المتعلقة مباشرة بالصراع الكوني الجاري بين القوى الصاعدة والقوى المتراجعة، هي بالضرورة قراءة خاطئة.

لا بدَّ في هذا السياق من المرور على الإشارات الواضحة التي ظهرت ضمن اللقاء الروسي التركي، والمتعلقة بمقاتلات الجيلين الرابع والخامس الروسية، وفتح باب بيعها بل وتطويرها المشترك مع تركيا، وتعبير تركيا عن رغبتها بذلك. في هذا السياق لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ انتقال تركيا التدريجي والمتسارع نحو السلاح الروسي، ابتداءً بالدفاعات، وخاصة S400 ومن ثم المقاتلات، وخاصة سو35 وسو57، هو انتقال نحو خروج كامل من المنظومة العسكرية الغربية- الأمريكية.

وليس خافياً على قارئ التاريخ التركي الحديث، أنّ المنظومة العسكرية التركية، بسلاحها وتبعيتها للأمريكي، كانت الأداة الأساسية في رسم سياسات تركيا طوال العقود السبعة الماضية. من باب التذكير فقط، فإنّ تركيا تعرضت خلال هذه العقود لعدد كبير من الانقلابات ومحاولات الانقلاب، بمعدل مرة كل (10-15) سنة آخرها هي محاولة الانقلاب الفاشلة 2016، وكانت هذه الانقلابات دائماً وأبداً، تنتهي إلى إعادة تركيا إلى الحظيرة الأمريكية وضبطها ضمنها.

ضمن هذه الإحداثيات، وإذا أضفنا إلى خلفيتها جملة الاتفاقات الضخمة الاقتصادية والسياسية التي عقدتها تركيا مع كل من الصين وروسيا وإيران، خلال السنوات القليلة الماضية، فإنّ الحديث في لقاء بوتين أردوغان عن مقاتلات سو35 وسو57 يرقى إلى كونه إعلان نوايا صريح، باتجاه قطع نهائي للأتراك مع واشنطن، وهو الخيار الذي بات إلزامياً بالمعنى الموضوعي أمام تركيا في مواجهة العمل الأمريكي المفضوح والمباشر ضدها في عدد كبير من الملفات. والمهم أيضاً أنه بات قابلاً للتحقيق بخسائر يمكن تحملها، وبأرباح أعلى بما لا يقاس، على رأسها منع سيطرة الفوضى الخلاقة على الداخل التركي.
بهذا المعنى، فإنّ تصريحات بوتين ضمن المؤتمر الصحفي تحمل معنى ودلالات بعيدة كل البعد عن التفسيرات السطحية المتعلقة بصفقة «تبادل مساحات نفوذ جغرافي».


ما الذي تعنيه تصريحات «المنطقة الآمنة» إذاً؟
توضيح حدود الصراع، يُشكل الخطوة الأولى لمعرفة التموضع الحقيقي، وتالياً: المعنى الحقيقي، للحديث الروسي عن «المنطقة الآمنة»، ولكن ذلك لا يكفي للوصول إلى ذلك المعنى.

ضمن الإحداثيات السورية، فإنّ قاسيون كانت قد وصفت في افتتاحية عددها ذي الرقم 926 الصادر بتاريخ 11 آب 2019، الاتفاق الأمريكي التركي المعلن في حينه حول المنطقة الآمنة بأنّه «تكاذب أمريكي تركي» يسعى كل من طرفيه إلى الإيقاع بالآخر عبره، ورفع درجات الضغط عليه.

أي أنّ الاتفاق نفسه، ليس غير قابل للتطبيق فحسب، بل وليست لدى الطرفين نوايا فعلية في تطبيقه. كل ما في الأمر أنّ «الاتفاق» إياه، هو دفعة أولى لتحريك الوضع الذي تحاول واشنطن تأبيده في الشمال الشرقي السوري، لعزله عن الحل السياسي في سورية، ولتفخيخ الحل بأسره من خلاله.

من جهة أخرى، فإنّ اضطرار الأمريكي إلى الدخول في هذا التكاذب، وقطع الوعود على نفسه، يُعبر هو الآخر عن اختلال موازين القوى على المستوى الدولي والإقليمي وفي سورية نفسها، بحيث لم يعد ممكناً الحفاظ على جمود الوضع في الشمال الشرقي، وبالذات مع التقدم في الملفين الآخرين الموضوعين على طاولة التنفيذ (إدلب، واللجنة الدستورية)، واللذين يعلم الأمريكي مسبقاً بأنّ السير فيهما خطوات كبيرة إلى الأمام من شأنه أن ينعكس سريعاً على ملف الشمال الشرقي نفسه، كاسراً جموده. ولذا فإنّ المناورة الأمريكية، بالإعلان عن اتفاق مع الأتراك على المنطقة الآمنة، تظهر بوصفها استباقاً لهذا المصير الحتمي، عبر محاولة خلق حالة جمود جديدة على أمل أن يكون لها نصيب في الاستمرار، باعتبار أنّ الحالة السابقة محكومة بالانتهاء في آجال قريبة.

وبطبيعة الحال، فإنّ التعويل الأمريكي عبر التكاذب مع التركي، كان يتمثل أيضاً في محاولة خلق تناقض مستعصٍ بين الأتراك والروس، لعل وعسى يساعد ذلك في تعطيل تقدم ملفي إدلب واللجنة الدستورية، ما ينعكس بدوره زيادة في عمر الجمود في الشمال الشرقي.


الهدف: مزيد من الضعف للأمريكي
بجمع العناصر السابقة، وبشكل خاص بجمع سو35 وسو57 مع «التفهم الروسي لفكرة المنطقة الآمنة»، يتضح أنّ درجة تنسيق الروس مع الأتراك، باتت أعلى من أي وقت مضى، وليس في الشمال الشرقي فحسب، بل وفي إدلب ومسألة اللجنة الدستورية أيضاً، وفي المسألة السورية عموماً. والهدف الأساسي المتفق عليه هو إضعاف الأمريكي وصولاً إلى إخراجه من الملف بأسره، ودائماً وأبداً على أساس القرار 2254، وعلى أساس صيانة وحدة سورية واستقلالها. وضمن الاستهداف نفسه، يظهر أن المطلوب أيضاً هو إضعاف تلك القوى المستقوية بالأمريكي، والتي شطحت في خيالاتها بعيداً مستندة إلى الأكاذيب الأمريكية، والتي بات تحجيمها المتواتر أمراً واقعاً.


أضنة
ما يلفت الانتباه ضمن التحليلات والتصريحات المتعلقة بالمنطقة الآمنة، وتحديداً تلك القادمة من الطرف الروسي، الرسمي وشبه الرسمي، هو إعادة الحديث عن اتفاق أضنة 1998، والذي يعني ضمناً، أنّ أي إجراء فعلي سيجري على الأرض، إنما سيجري في إطار القانون الدولي، أي على أساس توافق مع السوريين، ولكن ضمن إطار الحل السياسي الشامل.


هل انتهت الاحتمالات الخطرة؟
لا يعني الكلام السابق كله أنّ الاحتمالات الخطرة باتت خارج نطاق الإمكانية، وبالضبط تلك الاحتمالات المتعلقة بأطرافٍ تركيةٍ تحاول المناورة مع الأطراف المختلفة، وسَمْتُها الأساس لا يزال الحضن الأمريكي؛ فهذه القوى موجودة بلا شك، وعلى مختلف المستويات في تركيا، ولها وزنها وتأثيرها. ولكن المؤكد أيضاً، أن هذه القوى باتت أضعف من السابق بما لا يُقاس، وباتت قدرتها على تفعيل الخيارات الخطرة أدنى بمرّات عديدة مما كانت عليه، ليس في عام 2011 فحسب، بل وحتى أدنى بمراتٍ مما كانت عليه في 2016.

معلومات إضافية

العدد رقم:
929
آخر تعديل على الإثنين, 02 أيلول/سبتمبر 2019 23:42