واشنطن تتداعى: ليّ ذراع الواقع غير ممكن
خلال العامين الماضيين، شرع البيت الأبيض في نزاعات تجارية استهدف خلالها الحلفاء المفترضين، والأعداء المعلنين للولايات المتحدة على حدّ سواء، وانسحب أو رفض التصديق على عدد كبير من المعاهدات والاتفاقيات متعددة الأطراف. وفي هذا الإطار، وسَّع نطاق عقوباته المفروضة من جانب واحد، مما أجبر الدول الأخرى على الوقوف في وجه واشنطن ومواجهة العقوبات الاقتصادية بعقلية العالم الجديد.
في حين أنّ النية المعلنة لإدارة ترامب كانت الدخول في ترتيبات جديدة تحقق منفعة أكبر للولايات المتحدة، فإن النتيجة النهائية كانت مختلفة تماماً، حيث نرى ما يشبه الإجماع الواسع داخل المجتمع الدولي على أن واشنطن دولة غير مستقرة، متفلتة من عقالها، وليست شريكاً موثوقاً به.
كلٌّ خّلْفَ مصلحته
أدى الإجماع المذكور آنفاً إلى محادثات بين حكوماتٍ عدة في العالم حول كيفية التحايل على النظام المصرفي الأمريكي، الذي يعدُّ السلاح الهجومي الأساسي بالنسبة للولايات المتحدة. في هذا السياق، يؤكد فيليب جيرالدي، ضابط المخابرات العسكرية في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إن «الدولة الوحيدة في العالم التي تنظر إيجابياً للولايات المتحدة هي «إسرائيل»، والتي لديها بالتأكيد سبب وجيه للقيام بذلك في ضوء الهِبات التي جاءت من إدارة ترامب. لكن عدا ذلك، يحرص الجميع على الخروج من تحت الكعب الأمريكي».
في أوروبا، نشهد تغيّرات واضحة في آلية التعاطي الأوروبي مع الولايات المتحدة. حتى آنجيلا ميركل، التي كانت الصحافة الغربية تنظر لها بأنها الأكثر ضعفاً في مواجهة الضغوط الأمريكية، تدرك الآن أن المصالح الوطنية ينبغي لها أن تسود عندما تطالب الولايات المتحدة ألمانيا بأن تفعل ما لا يصبُّ في المصلحة الألمانية. فخلال اجتماع مجموعة العشرين الذي تم اختتامه مؤخراً في طوكيو، أعلنت بريطانيا وفرنسا وألمانيا أن آلية التجارة الخاصة لدعم التبادلات التجارية (Instex) قد بدأت تعمل، وستسمح للشركات في أوروبا بالقيام بأعمال تجارية مع بلدان مثل إيران، وستسمح بتجنب العقوبات الأمريكية عن طريق التجارة خارج نظام «سويفت» الذي يحكمه الدولار ويخضع فعلياً لوزارة الخزانة الأمريكية.
رغم أن بعض الدول الأوروبية تريد أن تجس النبض الأمريكي من خلال هذه الخطوة، إلّا أنه لا يمكن التقليل من أهمية هذه الخطوة أبداً. إذ إنها الخطوة الرئيسة المكتملة الأولى في الابتعاد عن هيمنة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية في العالم. وبهذه الخطوة، تؤكد الولايات المتحدة من جديد على أن الضرر الذي يلحق بمصالحها عالمياً هي السبب به، حيث كان هنالك حديث أوروبي مستمر منذ سنوات حول إنشاء آليات تجارية لا تستند إلى الدولار، لكن الولايات المتحدة لم تستفد من كل هذه التحذيرات، إلى حد وصل بها للانسحاب فجأة من خطة العمل الشاملة المشتركة (jcpoa) مع إيران قبل أكثر من عام.
إيران تزيد من الحرج الأمريكي
كل القوى التي كانت شريكاً في خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران أغضبها التلميح الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي، لأن ثمة تقدير مشترك بأن الاتفاق كان جيداً جداً، ومنع إيران من تطوير السلاح النووي، وخفف التوترات في منطقة شرق المتوسط بشكلٍ ملحوظ.
لكن ما الذي فعلته الولايات المتحدة لتخفف غضب هذه الدول؟ أعلنت واشنطن أنها ستعيد فرض العقوبات على إيران، وأنها سوف تستخدم أيضاً العقوبات الثانوية لمعاقبة أي طرف ثالث لا يمتثل للقيود التي تفرضها هي على التجارة العالمية.
وبالرغم من أن هنالك بعض المنتقدين لآلية Instex داخل إيران، إلا أن الموقف الرسمي للحكومة مرحب، لكن ثمة «ضربة مخفية» يوجهها الإيراني للأمريكي في سياق التحضير لعمل هذه الآلية، وهي أن المراقبين الأمريكيين لاحظوا أن الأداة التجارية والمالية الإيرانية الخاصة، والتي ستقوم بالتداول الفعلي، تشمل تحديداً الوكالات الحكومية التي تخضع بالفعل للعقوبات. وهذا يعني أن واشنطن ستكون مجبرة إذا ما أرادت عرقلة هذه الآلية، أن تلجأ إلى فرض عقوبات ثانوية على الأوروبيين، وهي خطوة ستجعل بالتأكيد العلاقات الثنائية أكثر سميّة مما هي عليه بالفعل، وهذا الأمر يتطلب قوة أمريكية مشكوكاً في توافرها اليوم، فالحرب التجارية العالمية هي احتمال واضح، وكما ذكرنا أعلاه، فإن التخلي عن الدولار كعملة احتياطية دولية هو نتيجة لها أرضية اليوم.
الولايات المتحدة تُسرّع تراجعها
قبل عقود قليلة، كانت أية فكرة عن الابتعاد عن الدولار تعتبر تهديداً مباشراً للهيمنة العالمية الأمريكية يتطلب ممن يتخذها أن تكون لديه قدرات صد أية ردة فعل أمريكية. لكن في السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح للعديد من الدول التي تعارض الهيمنة الأمريكية أن الطريقة الوحيدة لاحتواء تداعيات الإمبراطورية الأمريكية المنهارة على نحو ملائم هي التخلي تدريجياً عن الدولار.
تطلق الولايات المتحدة النار على قدميها من خلال تسريع هذه العملية عِبر فرضها العقوبات يميناً وشمالاً على الدول التي لا ترضخ للمطالب الأمريكية، فهذا من شأنه تسريع وتائر العمل على إنشاء منظومات مالية عالمية بديلة عن المنظومة القائمة والمعتمدة على الدولار، بل وكذلك تعزيز العلاقات بين عدد كبير من الدول التي ستكون مضطرة لتحييد التباينات الثانوية وضبط العمل المشترك من أجل دخول المنظومة العالمية الجديدة على أرضية مستقرة.
الولايات المتحدة، كإمبراطورية آخذة في الزوال، تستخدم اليوم كل سلاح متاح أمامها في محاولة لضبط وزنها المتناقص كقوة عظمى في العالم. وما نراه اليوم ليس سوى ردة فعل قوة دولية متألمة من ظهور قوى جديدة على المشهد الدولي، تحاول هذه القوة المتألمة أن تلوي ذراع الواقع، ولطالما كانت هذه المحاولة فاشلة تاريخياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 922