الجولان ومستقبل الأمريكيين في المنطقة
يخطئ كثيراً من يحاول الاكتفاء بفهم قرار ترامب حول الجولان السوري المحتل ضمن السياق السوري وحده، أو ضمن السياق السوري الفلسطيني فحسب؛ لأنّ القرار وطبيعة الاصطفافات والآثار المترتبة عليه، محلياً وإقليمياً ودولياً، تسمح بالقول: إنه خطوة ضمن إستراتيجية عامة تخص التعامل الأمريكي مع مجمل منطقتنا، بل ومع العالم بأسره!
ما ينبغي التأكيد عليه قبل كل شيء آخر، هو واقع التأزم والتراجع الأمريكي المتعاظم، اقتصادياً بالدرجة الأولى، وسياسياً وعسكرياً كنتيجة لذلك. أحد المؤشرات العديدة على ذلك هو أنّ الولايات المتحدة في عز جبروتها وعنجيتها، غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تصل إلى درجة العزلة التي تعيشها اليوم؛ فحتى تلك الأعمال الإجرامية التي قادتها في يوغسلافيا وفي العراق وأفغانستان وأماكن أخرى من العالم، كانت تجد فيها من يقف معها ومن يقف ضدها، أما في مسألة الجولان فلم يجرؤ حتى أشد مناصريها على تأييدها، بل إنّ مناصريها لم يجرؤوا حتى على السكوت عن إدانتها!
لم يعد جديداً القول: إنّ واشنطن، وفي إطار صراعها لمحاولة الحفاظ على هيمنتها العالمية، وعلى سطوة دولارها، تسعى لنقل مركز المعركة باتجاه الحدود المباشرة للصين ولروسيا، ذلك أنّ المشاغلات التي جرت على تخوم غير مباشرة، وخاصة في منطقتنا، لم تؤدِّ المطلوب؛ أي: أنه جرى تطويقها بالمعنى العام، وبات واضحاً بالأفق غير البعيد أن مشكلات المنطقة آيلة للاحتواء، خاصة مع تعزز حضور ودور ثلاثي أستانا.
إنّ نظرة عامة لنقاط الارتكاز الأساسية الأمريكية على المستوى العالمي، يسمح برسم الخريطة الأولية التالية:
الكيان الصهيوني في منطقة «الشرق الأوسط» مع إمداد ومساندة معلنة وغير معلنة من دول خليجية على رأسها السعودية، بالإضافة إلى استمرار محاولة اللعب على القضية الكردية.
تخوم الصين وخاصة محاولة تأجيج صراع هندي باكستاني، وبالذات بعد اتضاح اقتراب أفول الدور الأمريكي في أفغانستان. وذلك إلى جانب استمرار الاشتغال على التيبيت وفيتنام وغيرها.
الحدود الغربية لروسيا، دول البلطيق وأوكرانيا خاصة، إضافة إلى بعض الدول الأوربية الصغيرة ضمن شرق أوروبا، ومحاولة تحويلها إلى متاريس اشتباك صاروخي بين أوروبا ككل وروسيا، ورغماً عن إرادة من يريد ومن لا يريد من الأوروبيين، عبر مدّ الناتو شرقاً.
«الحديقة الخلفية» أمريكا اللاتينية، حيث يبدو التركيز الأمريكي هناك في قمته عبر تكثيف الهجوم على فنزويلا وكوبا، لسحق أية مقاومة للسطوة الأمريكية ضمن أمريكا اللاتينية.
إنّ نقاط الاشتباك والتركيز التي سردناها هنا ليست جديدة، فما الجديد إذاً؟ الجديد هو أمران، الأول: درجة تركيز النيران ضمنها من جهة، والثاني: هو أنّ تركيز النيران هذا يجري بالتوازي مع انسحاب إجباري من أماكن أخرى...
أي: أنّ الميل العام لدى الأمريكي اليوم، هو باتجاه محاولة الحفاظ على النار مشتعلة في كل مكان مع القناعة بأنها ستنطفئ في أماكن عديدة ضمن سنوات قليلة قادمة، ولكن لمنع ذلك لا بدّ من إعادة تموضع للقوى المتناقصة وللإمكانات المتناقصة باتجاه تركيزها ضمن النقاط التي يمكن المراهنة عليها أكثر من غيرها كحلفاء دائمين أو كمطارح اشتعال وصراعات يصعب منع وقوعها.
في هذا السياق، فإنّ قرار الجولان المحتل، يعني: الانتهاء من محاولة ضرب الجميع بالجميع من موقع «حليف الجميع»، والانتقال إلى موقع «عدو الجميع» المعلن.
أمريكا لم يعد لها مكان ضمن التسوية السورية، ولا ضمن القضية الفلسطينية (من موقع الراعي الكذاب الذي كانته)، وهذا ما عبر عنه وضوحاً بيتر بيتشولد Peter Bechtold المدير السابق لقسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضمن معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية بعد تغريدة ترامب حول الجولان، حيث قال وضوحاً: «أخشى أنّ هذا القرار سيبعد الولايات المتحدة نهائياً عن الطاولة» وأردف بأنّ موقع وتأثير الولايات المتحدة ضمن أية تسوية قادمة في سورية وفي فلسطين، «بات مهدداً».
بكلام آخر، يمكن القول: إنّ قرار ترامب حول الجولان هو واحد من حزمة قرارات ستظهر قريباً، وفي إطار ما يسمى «صفقة القرن»، وكلها تتوخى التمركز على الكيان الصهيوني أولاً، وبعض دول الخليج ثانياً (في إطار تشغيلها العلني كعملاء له، وأهم من ذلك في إطار استخدام هذه العمالة الوقحة أداة للتفجير الداخلي، عبر تعميق الانقسامات الداخلية وعبر تشغيل داعش وأشباهها)، ولا يجوز غض النظر نهائياً عن مصر بوصفها مستهدفاً أساسياً في هذا السياق، مستهدفاً في إطار التفجير!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 907