تراجع- انقسام- انسحاب!
لا يزال إعلان ترامب عن انسحاب قواته من سورية قبل أيام، الحدث الأساسي، ليس سورياً فحسب، بل وعلى امتداد المنطقة، إنْ لم نقل على امتداد العالم. ولا بد أمام هذا الإعلان من الوقوف على ثلاثة جوانب أساسية: تفسيراته، غاياته، وكيف على القوى الوطنية التصرف تجاهه
أولاً: التفسير
جوهر القرار الأمريكي، يكمن في الأزمة المتعاظمة والمتسارعة لمجمل المنظومة الرأسمالية العالمية؛ بنظام العلاقات الدولي الذي شيّد على الأحادية القطبية سياسياً وعلى التبادل اللامتكافئ والنيوليبرالية اقتصادياً. هذه الأزمة أنتجت تراجعاً مستمراً ظهر بوضوح مع بدايات هذه الألفية وصولاً إلى حالة توازن صفري مع القوى الصاعدة يمكن التأريخ لها مع الفيتو الأول الروسي الصيني حول سورية، ودحل مرحلة الرجحان لمصلحة القوى الصاعدة ابتداء من الدخول العسكري المباشر على خط محاربة الإرهاب نهاية أيلول 2015.
أنتج التراجع المستمر، انقساماً ضمن النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، بل وفي مجمل النخب الحاكمة في دول المركز الرأسمالي؛ وهذه سمة موضوعية لها صفة القانون الثابت: أي قوة متراجعة لا بد أن تدخل في حالة انقسام حول الخيارات المصيرية التي ينبغي عليها اتخاذها. إحدى ترجمات هذا التراجع الواضحة هي الانقسام والتخبط الهائل ضمن الإدارة الأمريكية، ولكن سمته الأهم، والأكثر عمقاً هو ما تحدثنا عنه مراراً من انقسام بين تيار فاشي وآخر عقلاني.
الانقسام نفسه، مع استمرار التراجع وعدم الوصول إلى مخارج، هو ما أنتج القرار بالانسحاب من سورية، كذلك الأمر مع الانسحاب الجزئي من أفغانستان، وقبل ذلك الانسحاب من العراق 2011 ثم العودة الجزئية بذريعة محاربة الإرهاب؛ عودة كانت هشة وأقل تأثيراً بما لا يقاس مقارنة مع احتلال 2003.
ثانياً: الغايات والاحتمالات
الانسحاب قدر لا راد له تحت تأثير التراجع والانقسام، لكن توقيته ونسبته، أي هل سيكون كاملاً أم جزئياً، فورياً أم على مراحل، هو ما ينبغي النظر إليه عن كثب والعمل على تسريعه. كذلك الأمر مع التوقيت الذي يتوخى تقليل الخسائر بالحد الأدنى.
لكن التوقيت أيضاً، وكما هو واضح منذ ما قبل الإعلان عن الانسحاب، يتوخى الوصول إلى اقتتال شامل بين مكونات المنطقة بأسرها، وفي صلب ذلك محاولة بذر الشقاق ضمن ثلاثي أستانا الذي بات أكبر بكثير من تجمع مؤقت معني فقط بالتصرف المشترك لقوتين إقليميتين وقوة دولية تجاه الوضع السوري، بل تحول إلى بداية منظومة إقليمية- دولية جديدة، وتنتمي في العمق إلى منظومة العلاقات الدولية الجديدة التي لا تزال في طور التشكل على أنقاض العالم أحادي القطبية.
ثالثاً: ما العمل؟
بغض النظر إن صدق الأمريكيون ونفذوا انسحابهم بشكل (كامل وسريع) أم ماطلوا في ذلك، فإنّ على الوطنيين السوريين، الدفع نحو إلزامهم بتنفيذ ذلك الانسحاب، والمدخل الأساسي لذلك يتمثل في نقطتين جوهريتيين:
- إشراك المكونات السياسية السورية الموجودة في شرق الفرات إشراكاً حقيقياً وفعالاً ضمن العملية السياسية بمفرداتها المختلفة وبمدخلها الدستوري، والدفع نحو تنفيذ 2254 مع من تتوفر لديه الإرادة من القوى الدولية المستعدة لتنفيذ ذلك القرار، والاستفادة حتى الحد الأقصى من أستانا ومقررات سوتشي في هذا الإطار.
- الجيش السوري هو الجهة الوحيدة المخولة باستعادة الأراضي التي كانت محتلة من قبل الأمريكان، وينبغي أن يتم استعادة تلك الأراضي بالشكل الذي يضمن ويحفظ كرامات الناس شرق الفرات.