منظومة إقليمية جديدة لعالم جديد
يلعب البعدُ الدولي دوراً حاسماً وأساسياً في صياغة المنظومات الإقليمية على امتداد العالم، بحيث تنفتح أو تتضيَّق هوامش «المناورات» لهذه القوة الإقليمية أو تلك، تبعاً لمحددات البعد الدولي بالدرجة الأولى. وبالتوازي مع التغير الحاصل في موازين القوى العالمية اليوم، يمكن القول: إن فضاءً إقليمياً جديداً يتم بناؤه على أرضية التوازنات الجديدة.
من توقيع الاتفاق الروسي التركي حول إدلب، إلى تسليم سورية منظومة الدفاع الجوي الروسية إس300، والحديث عن سحب منظومات باتريوت الأمريكية من عددٍ من دول المنطقة، وتطور التصريحات الأمريكية مؤخراً بشأن الوجود الإيراني في سورية، وصولاً إلى مستجدات الوضع الفلسطيني وما يسمى بـ«صفقة القرن»، وغيرها العديد من الوقائع التي جرت مؤخراً، حملت معها دفقاً جديداً من التحليلات السياسية القائلة بتداعي المنظومة الإقليمية التقليدية في منطقتنا.
«آستانا» و«الترقيات» الإقليمية
تعزِّز التطورات المذكورة آنفاً استياءً وتخوفاً «إسرائيلياً» شديداً. وربما يكون الكيان هو أكثر الأطراف التي تتحدث مؤخراً عن التغيرات الإقليمية الجارية، حيث ينظر إلى الاتفاق الروسي التركي حول إدلب بوصفه «ترقيةً إقليمية» تقدمها روسيا إلى تركيا التي تنحو- بحسب التخوف «الإسرائيلي»- من كونها قوة متورطة «حتى الآذان» بالأزمة السورية، لتغدو «طرفاً ضامناً» للعملية السياسية وفقاً للقرارات الدولية التي تضمن وحدة سورية واستقلالها، أي: أن الطرف الروسي يقلّم «المخالب التركية» التي تم شحذها في نهايات مرحلة السيادة الأمريكية عالمياً (ما بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008) والتي سمحت بهامش مناورة إقليمية واسعةٍ نسبياً لكلٍّ من تركيا وإيران.
على النحو ذاته، ينظر الطرف الصهيوني إلى سلسلة الإجراءات الروسية المتخذة مؤخراً كردٍ على إسقاط الطائرة الروسية «إليوشن 20»، بوصفها ليست تعزيزاً للدفاعات الجوية السورية، ودفعةً قوية لقدرات الرد السوري فحسب، بل أيضاً «ترقية إقليمية» لإيران التي- وإن التزمت بالبقاء بعيدة عن الحدود الجنوبية الغربية لسورية وتبدي استعدادها حتى لسحب «مستشاريها» من سورية- إلا أنها ستستفيد من تقويض قدرات الكيان على القيام بالعمليات الاستفزازية بعد حزمة الإجراءات الروسية، والتي تجلت باضطرار نتنياهو إلى تحويل «تهديداته» الخطابية من «مواجهة النفوذ الإيراني في سورية» إلى «مواجهته في لبنان والعراق».
لتبقى إيران وتركيا بذلك قوتين إقليميتين تستفيدان من الإطار الدولي الداعم (وتضبطان هوامش حركتهما الإقليمية بضوابطه)، في مواجهة التصعيد الأمريكي الجديد بالعقوبات. وهذا ما يدفع إلى ترسيخ الفكرة القائلة بعدم اقتصار عمل «ترويكا آستانا» في إطار المسألة السورية فحسب، بل له أيضاً تداعيات إقليمية تتمثل في المواءمة بين قوتين إقليميتين كانتا على طرفي نقيض في عالم القطب الأمريكي الواحد. وفي هذا الصدد، ترتدُّ العقوبات الاقتصادية الأمريكية على فارضيها أنفسهم، بحيث باتت تلعب دوراً في تعزيز العلاقات التركية الإيرانية التي تمظهرت مؤخراً في مسألة استبعاد الدولار في المعاملات الثنائية.
ضرورات الأمريكي
الخليج متروكاً؟
سبّب قرار البنتاغون الأمريكي خلال الأسبوع الماضي بسحب منظومات باتريوت من المنطقة (2 من الكويت، وواحدة من الأردن، وأخرى من البحرين) بلبلة كبيرة في الأوساط السياسية والإعلامية الخليجية، فالخطوة التي وضعتها صحيفة «وول ستريت» في إطار إعادة التموضع الأمريكي وفقاً للإستراتيجية العسكرية الجديدة، بعيداً عن «الخلافات التقليدية طويلة الأمد في الشرق الأوسط وأفغانستان، وإعادة الانتشار في شرق أوروبا وجنوب شرق آسيا»، فسرتها الأوساط السياسية الخليجية بأنها «تخلٍّ» أمريكي عن «أمن الخليج»، وفي هذا جزء كبير من الصحة نظراً للأولويات الأمريكية التي تدفع في اتجاه تأكيد الحضور في منطقة المحيط الهادئ التي شهدت مساء الثلاثاء الماضي قيام عدد من قاذفات «بي-52» الأمريكية في عملية مشتركة مع اليابان بمناورات عسكرية في شرق بحر الصين. وهذا يتساوق عملياً مع الإستراتيجية الأمريكية القاضية بالتركيز على التخوم الروسية الصينية في إطار تنظيم عملية التراجع من مناطق أخرى في العالم.
أما بخصوص «التخوفات الخليجية» من الوزن الإيراني في المنطقة، فعلى الأغلب سيكون على الخليج أن «يدفع ثمن أمنه»، إذ حمل الاجتماع الذي ضمّ وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، مع عددٍ من نظرائه في الدول العربية (السعودية، الأردن، الإمارات، الكويت، البحرين، مصر) تأكيداً أمريكياً على إقامة «تحالف إستراتيجي في الشرق الأوسط يستند إلى مجلس تعاون خليجي موحَّد»، بينما يتزايد التلميح الأمريكي بأن دعمه للخليج سيكون «تشاورياً- تقنياً». وفي هذا الإطار يتزايد على نحو ملحوظ الحديث عن ربط فكرة «الناتو العربي» بـ«ضرورة التنسيق مع «إسرائيل» بوصفها «شريك» في عملية مواجهة إيران». وهنا يبدو أن الأمريكي، ونتيجة للضرورات التي تدفعه لإعادة تقييم انتشار قواته وتركيزها في المناطق ذات الأولوية، يحاول أن يثبت رسمة إقليمية محددة قبيل «مغادرته» تحافظ له على وزن في المنطقة بأقل التكاليف الممكنة.
«صفقة» الأمس
لن تمر بتوازنات اليوم
رغم عدم اكتمال التفاصيل حول «صفقة القرن» المفترضة في فلسطين المحتلة، إلّا أنه من الممكن تلمس معالمها الأساسية من التصريحات هنا وهناك، والتي تشي بمحاولة أمريكية بمعونة من حلفائها التقليديين في المنطقة لترسيخ أمر واقع في المنطقة، يتيح «توطين» اللاجئين الفلسطينيين في إطار «حكم ذاتي» يجري الحديث عن أنه سيكون في سيناء، أو بالمشاركة مع الأردن، بالتوازي مع العمل الحثيث على تثبيت «مفهوم جديد للاجئين» يحصرهم بمن هجر من فلسطين عام 1948، أي: بضعة آلاف فقط...
وبغض النظر عن التفاصيل، إلّا أن العيب الفاقع في مثل هذه الطروحات هو أنه يحاول أن يثبّت «أمراً واقعاً» وفقاً لتوازنات مرحلة القطب الأمريكي الواحد، وهو ما لا يمكن الحديث عنه اليوم في ظل التوازنات الجديدة، حيث يفرض المنطق أن تكون القوى الدولية الصاعدة، وفي مقدمتها روسيا والصين، هي الطرف الدولي الأوسع تأثيراً في حل الأزمات على أساس القرارات الدولية التي ظلت رهينة العقلية الانتقائية الأمريكية ردحاً من الزمن. وهو ما يمكن التعويل عليه في عملية نزع الطابع الصهيوني عن الكيان المحتل، بمعنى زوال «إسرائيل» التي نعرفها بدورها الوظيفي كقاعدة متقدمة للإمبريالية في المنطقة.
ورغم ما ذكر آنفاً عن تبدل جذري في المشهد الإقليمي، إلّا أن ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال، أن المنظومة الجديدة ستقوم على قاعدة «نقل الهيمنة» من قوى حليفة للولايات المتحدة إلى قوى حليفة لروسيا (كما تروّج وسائل الإعلام العربية لذلك)، إنما يمكن تلمس الموقف الروسي حيال هذه المسألة بخلق منظومة إقليمية قابلة للتكامل فيما بينها من خلال سد الذرائع وتجفيف بؤر التوتر القابلة للانفجار، بما يخدم الرؤى الإستراتيجية الروسية الصينية المشتركة حول التكامل الأوراسي وطريق الحرير الجديد، ويتقاطع مع مصالح شعوب المنطقة التي تُركت نهباً للنزاعات الإقليمية التي تمّت تذكيتها غربياً.