ذكرى تأسيس الأممية الأولى «حين اتحدّ عمال أوروبا»
عَمَّت الثورات القارة الأوروبية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، وكانت هذه الثورات هي المفصل الذي أنهى تقريباً جملة الأنظمة الملكية، ودخلت مفاهيم الدستور، والبرلمانات، والأحزاب السياسية، ومجمل مفاهيم الديمقراطية البرجوازية إلى أنظمة الحكم لتلحق القارة الأوروبية القاطرتين الإنكليزية والفرنسية... ولكن هذه النتائج الديمقراطية التي حصدتها البرجوازية المتقدمة في حينها، لم تكن كل شيء. فالمرحلة الثورية المذكورة، دفعت العمل السياسي للطبقة العاملة، خطوة كبرى للأمام. تمثّلت في ظهور البيان الشيوعي في عام 1848، الذي افتتح بالشعار الأشهر: «يا عمال العالم اتحدوا» والذي صاغه ماركس وإنجلز في حينه.
حينه إلى سبعينيات القرن التاسع عشر، وحقق نقلات نوعية في تطور الحركة السياسية للطبقة العاملة، ووعيها لذاتها، ونضال من أجل ذاتها... وفي تلك المرحلة التي شهدت تشكيل أهم النقابات الأوروبية، وأهم الأحزاب التقدمية، أتت الأممية الأولى، لتنقل النشاط إلى المستوى الأوروبي العام وتضم أكثر من 8 ملايين عضو.
تأسيس الأممية الأولى
قبل 154 عاماً، وبتاريخ 28 أيلول 1864 تأسست الأممية الأولى، أو جمعية الشغيلة العالمية التي وحدت نضال الأحزاب والنقابات العمالية حتى سنة 1876.
بعد انتفاضة يناير 1863 في بولونيا، بدأ العمال الفرنسيون والإنكليز في مناقشة تطوير إستراتيجيات العمل، ومحاولة منع استيراد العمال الأجانب لكسر الإضرابات. في سبتمبر 1864، زار بعض المندوبين الفرنسيين لندن مرة أخرى بهدف إنشاء لجنة خاصة لتبادل المعلومات بشأن المسائل التي تهم العمال من جميع البلدان، وقرروا إعلان حملة تضامن مع مختلف نضالات التحرر حول العالم حينها.
تمت هذه العمليات التنسيقية الأولى وسط الانكماش الاقتصادي، ومحاولات أرباب العمل تأليب العمال الإنجليز والفرنسيين بعضهم على بعض، وأراد النقابيون على جانبي القناة مواجهة إستراتيجية «فرق تسد» البرجوازية.
وهكذا تشكلت الأجواء المشجعة لتأسيس الأممية الأولى بتاريخ 28 أيلول 1864 في قاعة سان مارتن في لندن، لتوحيد مجموعات العمال والنقابات والأحزاب في العديد من البلدان، وخاصة البلدان الأوروبية. وكانت المهمة التاريخية للأممية الأولى، هي: طرح برنامج وإستراتيجية وتكتيك الأحزاب الماركسية والعمالية على الصعيد العالمي.
ضمت الأممية في صفوفها الماركسيين، والتيار النقابي الإنكليزي الإصلاحي، والبرودونيين الفرنسيين، والجمهوريين الإيطاليين، والقوميين البولونيين والإيرلنديين، والاشتراكيين الألمان، والفوضويين وغيرها. ضمّ المجلس العام للأممية عشرات الأعضاء من مختلف البلدان، بينهم: كارل ماركس الذي لعب دوراَ سياسياً وتنظيمياً حاسماً في حياة المنظمة.
دعمت الأممية الأولى إضرابات العمال الكبرى، مثل: إضراب الخياطين في إنكلترا 1866، ووضعت إستراتيجية لمواجهة سياسة كسر الإضرابات التي تقوم على ضرب عمال بلد بعمال بلد آخر، وطالبت بتثبيت ساعات العمل الثماني، وأدخلت المرأة العاملة ضمن قوام المجلس العام، وصيغت قرارات بشأن النضال الاقتصادي والإضراب عن العمل والحريات السياسية والنضال البرلماني ومناهضة العسكرة والحرب.
الصراع داخل الأممية الأولى
عقدت الأممية الأولى عدة مؤتمرات: بين عامي 1866- 1872 في المدن الأوروبية. ولكنها مع تراجع الحرك الثوري العمالي، والانتعاش الرأسمالي الكبير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انقسمت فكرياً في عام 1872 إلى اتجاهين: الأول: ماركسي، والثاني: فوضوي. وعقد الجناح الماركسي مؤتمر جنيف 1873 ومؤتمر فيلادلفيا 1876.
كتب ماركس العديد من الوثائق الأساسية للمنظمة الجديدة، مثل: نداء للطبقات العاملة، وأكدت الوثائق: أن التحرر الاجتماعي للعمال لا ينفصل عن التحرر السياسي. كما صدرت قرارات رئيسة تركزت على التزام الأممية بإنشاء أحزاب سياسية بهدف الاستيلاء على سلطة الدولة كشرط لا غنى عنه للتحول الاشتراكي وهذه الفكرة بالضبط كانت سبب الخلاف بين الماركسيين والفوضويين.
وقد كان هذا الصراع الفكري، ضرورة ناجمة عن التطور العملي للحركة الثورية العمالية العالمية، وللأحزاب السياسية التقدمية. ونتيجة للتحديات التي فرضها الانتعاش الرأسمالي، مع انتعاش الرأسمالية في كل من ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولحاقها ببريطانيا وفرنسا، ومع بدايات انتقال الرأسمالية إلى سيادة الحالة الاحتكارية، وانتقالها إلى المرحلة الإمبريالية الأمر الذي بدأت ملامحه نهاية القرن التاسع عشر، واستكمل في مطلع القرن العشرين. ولكن مقدماته كانت تعتمد على النمو القوي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولعل أهم محطة سياسية في تاريخ الأممية، هي: كومونة باريس 1871، حين انتفض العمال مرة أخرى في باريس في أول ثورة عمالية في العالم، ليكوّنوا أول حكومة عمالية استمرت لمدة شهرين فقط، قبل سحقها بدموية. وكان أعضاء الأممية الأولى ممثلين في قيادة كومونة باريس بـ «17 عضواً من أصل 92».
ماركس راقب عمل كومونة باريس، واستنتج الأخطاء الجوهرية التي أدت إلى قصر عمر تجربتها. ولكنه اعتبر أن النتاج كان منطقياً في إطار التجربة التي كانت تجربة الطبقة العاملة الأولى لمواجهة البرجوازية، والاستيلاء على الحكم، وتحديداً أنها تمت في لحظة قوة وانتعاش للعدو الطبقي، وفي آخر الطريق الصاعد للحراك الثوري الذي عم أوروبا منذ ثلاثينيات القرن العشرين.
هذه التجربة شكلت نقلة نوعية كبرى في ممارسة وتنظيم الطبقة العاملة لنفسها في لحظة الحراك الثوري، ورفعت العتبة التاريخية لأدواتها النضالية، التي تم استقاؤها في المرحلة التالية، مع تجدد الحراك الثوري العالمي مطلع القرن العشرين، الذي أحدث نقلة أخرى تمثلت بنجاح أول تجربة بناء اشتراكي في روسيا، وتوسعها بعد الحرب العالمية الثانية لتضم ثلث الكرة الأرضية، في الاتحاد السوفييتي والصين، وأوروبا الشرقية وغيرها.
تجربة النهوض الثورية الأخيرة في النصف الأول من القرن العشرين، أنجزت تراكماً نوعياً أعلى في تجربة الطبقة العاملة عالمياً. ثم انحسرت مع تراجع موجة الحراك الثوري العالمي، والانتعاش الرأسمالي من دمار الحرب العالمية الثانية... وهي أيضاً رافعة للموجة التالية، تلك التي نشهدها اليوم، وسط أعمق أزمة للرأسمالية العالمية، وحيث يجب أن نتوقف ونفكر: إلى أية نقلة نوعية سيأخذنا تطور الحركة الثورية العالمية الصاعدة في القرن الحادي والعشرين، بعد أن استقت من تجربتي القرن التاسع عشر، والقرن العشرين؟!