ترامب: ترك الدنيا... و«عَبَد إيران»
انسحب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، ومع هذا فإن أصواتاً قليلة وغير محورية في الداخل الأمريكي عارضت هذا القرار. حتى يبدو أن التصعيد مع إيران، هو واحد من الملفات القليلة التي يجتمع عليها طرفا الانقسام العميق الأمريكي. فلماذا ترتأي النخب الأمريكية أن على إدارة ترامب أن تعادي إيران إلى هذا الحد؟
إن العداء الأمريكي والغربي عموماً لإيران، منذ السبعينيات، له جملة من الأسباب الموضوعية، المتعلقة بوضع إيران كقوة إقليمية في المنطقة. ولكن له أيضاً أسباب تتعلق باللحظة الأمريكية الحالية تحديداً.
إيران في السبعينيات
أسباب كافية للعداء
إيران القوة الإقليمية الوحيدة في «الشرق الأوسط»، التي كانت خارج الهيمنة والنفوذ الكامل للولايات المتحدة، منذ سبعينيات القرن الماضي. ويتضح هذا تحديداً إذا ما قارنا خارطة تحالفات القوى الإقليمية الأساسية: السعودية وانتماءها البترودولاري، تركيا وانتماءها الأطلسي، مصر في حكم السادات الذي زار «إسرائيل» وأخضع مصر لدوامة المؤسسات الدولية. بالإضافة إلى دولة الكيان بصفتها القاعدة العسكرية المتقدمة في المنطقة.
وسط هذا، فإن إيران كانت «خارج السياق الأمريكي»، إذ كانت الجمهورية الإسلامية الناشئة، تعادي الكيان الصهيوني والولايات المتحدة علناً، وتحاول شق طريق ثالث، دون مناورة.
من الجانب الثاني، فإن إيران ليست «أية دولة» من الدول التي حاولت التحكم في درجة التبعية الغربية، بل هي خزان طاقة، وخزان بشري، وبلد بموارد ومساحة هامتين يمتلك جملة روافع انطلاق استثنائية. كما كان لديه علاقات جيدة في حينها مع الاتحاد السوفييتي، وما يسمح به هذا من نقل المعارف والخبرات، ويسمح لدولة مهتمة بالتقدم المستقل أن تأخذ فرصتها. وهو ما فعلته إيران. فعملياً تحولت الإمكانات الموضوعية لإيران، وظرف العداء الغربي لها، إلى حافزٍ لتعزيز نزعة الاستقلال، وبناء القدرات. وتحولت إيران إلى واحدة من دول الأطراف المعدودة عالمياً، التي تسعى بشكل واعٍ إلى إحداث خرق في مجال قدراتها العلمية، التي انعكست في سلاحها، وفي معارف نوعية، مثل: تخصيب اليورانيوم وامتلاك تكنولوجيا الطاقة النووية.
من الحصار للاتفاق للانسحاب
بناء على كل ما سبق، فإن العداء الغربي لإيران كان ضرورة، وقد أخذ شكل الحصار الاقتصادي، بمستوياته المتصاعدة والمتطورة منذ نهاية السبعينيات. ما حجّم إيران اقتصادياً، وحصر أدوات تأثيرها الإقليمية. ولكن الوزن العسكري الإيراني المتنامي، كان قادراً على التعويض نسبياً، وتجلى في دعم المقاومة في لبنان، وفلسطين. وتحول لاحقاً إلى وزن في العراق، ودخل في المعركة السورية كطرفٍ إقليمي أساسي.
ومع هذا فإن عام 2015 شهد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، وكان إشارة على بداية الحلول السياسية للأزمات العالقة دولياً. ولكن هذا الإجراء تم الرجوع عنه من الطرف الأمريكي، في العام الحالي، وعادت إيران العدو الأبرز في الخطاب الأمريكي.
الانسحاب من الاتفاق يمكن تفسيره، ضمن إطار الفوضى المفتعلة من الإدارة الحالية، إذ انسحب ترامب من جملة إطارات تحالفية سابقة، ويريد إعادة النظر في بعضها الآخر. الأمر الذي يفيد في إثارة الفوضى الاقتصادية عالمياً، وعرقلة تقدم الآخرين، في ظل التراجع الأمريكي. ولكن انتقاء التركيز على إيران يرتبط بكونها عقدة ملفات إقليمية ودولية، تفتح مجالاً للضغط وبالتالي المفاوضات مع عدة أطراف.
إيران عقدة وصل عدة ملفات
الضغط على إيران، يهدف للوصول إلى الحدود القصوى: تفجير أزمتها من الداخل، عبر ضغط الخارج، وهو ما يمكن أن يدخل عامل ضغطٍ أمريكي في عدة ملفات:
الضغط على الدور الإيراني في كل من العراق وسورية، حيث يتواجد الأمريكيون بشكل مباشر، ويحاولون يائسين استدامة وتجديد الصراع، في الظروف الهشة للدولتين، باعتبارها الأمل الأخير في تداعي الفوضى في المنطقة.
الضغط على إيران، بما يخدم العلاقات مع بقايا الحلفاء الإقليميين في المنطقة، وفي مقدمتهم السعودية، ومن جهة أخرى الكيان الصهيوني. والولايات المتحدة بضغطها على إيران تؤجج الصراع الإيراني السعودي، وتغلق أفق حلّه، وتؤجج الارتباط السعودي بالولايات المتحدة، عبر آمال إضعاف إيران. أما من الطرف «الإسرائيلي» فإن الدور الإيراني في الدعم العسكري والسياسي للمقاومة، هو الدور الأكثر تهديداً لدولة الكيان، والضغط السياسي الاقتصادي الأمريكي عليها أحد الجوانب القليلة المتبقية التي يمكن للولايات المتحدة أن تقدمها لإسرائيل.
الضغط على إيران يساعد كذلك في الضغط الأمريكي على الأوروبيين، وفرض العقوبات على إيران، يعني: التضييق على القوى الاقتصادية الأوروبية الكبرى المتحمسة للسوق الإيرانية، ومحاولة استخدام النفوذ المالي والمؤسساتي للولايات المتحدة، لمنع خروج هؤلاء من بيت الطاعة، وجرهم إلى حيث يريد الأمريكيون.
الضغط على النفط الإيراني، يعطي الأمريكيين قدرة على التأثير في سوق أسعار النفط العالمي، ويفعّل التناقضات بين المنتجين عالمياً.
إن الضغط على إيران هو جزء من عرقلة مسار التغير في العلاقات الدولية، والمتجلي في أزمات المنطقة بوضوح، وتحديداً بترويكا أستانا: روسيا- تركيا- إيران. الإطار الإقليمي الذي بدأ يتصدى لمهمة إيجاد حلول سياسية إقليمية لأزمات دولية الطابع، كالأزمة السورية.
أخيراً، فإن إيران تقع في القلب الآسيوي، وعلى طريق المشاريع الكبرى للصين غرباً، عبر مشروع طريق الحرير، ولروسيا جنوباً، ولأوروبا شرقاً. وإحداث تفجير في إيران هو واحدة من الطرق الفعالة، لتفخيخ مسارات النمو والعلاقات الدولية المستقبلية وتأخيرها.
تركيز الضغط الأمريكي على إيران يرتبط بالتقاء عدة محاور دولية هامة لديها، إذ يعتقد الأمريكيون أن استخدام ملف واحد للضغط بالجملة، هو «تجارة رابحة». ولكن هذه السياسة من الصعب أن تنجح، لأنها تستهدف إيصال التوتر في إيران لحدودٍ قصوى، الأمر الذي أصبح للدول خبرة في استدراكه. ولكن هذا لا يعني أن إيران محصنة تماماً. وتحديداً أن الضغط الخارجي الآن، يعتمد على تفاعل التناقضات الداخلية، المحتدمة في إيران، كما غيرها من بنى رأس المال العالمي في أزمته العميقة حالياً. فمشروع البناء الوطني، لا يسير قدماً، على الأقل بالوتيرة الممكنة والمطلوبة، والأهم: أن توزيع عوائده تم ويتمّ بطريقة مجحفة، تترك الكثير من الشعب الإيراني، وشبابه تحديداً، بلا عمل أو دخلٍ كافٍ، وتؤدي إلى تراجع معيشة الكثيرين. سيكون على إيران أن تتلقف التغيرات الدولية التي يمكن أن تسمح لها بالخروج من الضغوطات الغربية التي ستحتدم بعد بدء تطبيق عقوبات النفط الشهر القادم، ولكن أهم ما ينبغي عمله لمنع نجاح الضغط الأمريكي، هو: التركيز على ما يريده فعلاً الشعب الإيراني: سماع صوته، وإعادة توزيع الثروات الإيرانية بما يسمح للجميع بالتقدم، وعدم تحميل الشرائح الدنيا كل تبعات الضغوط والأزمات الخارجية.