«ربيع عربي- عالمي» بخريف اقتصادي
تحت عنوان متى يعود «الربيع العربي»؟ نشر المحلل السياسي ألكسندر نازاروف مقاله في موقع روسيا اليوم حول الأبعاد الاقتصادية للأزمة التي تعصف بالعالم اليوم.
هل تتمكن الدول العربية من تفادي موجة جديدة من الثورات والفوضى؟ وتحديداً الدول الأكثر عرضة لذلك: لبنان ومصر والأردن.
من المعلوم أن الاقتصاد هو ما يحرك السياسة، حيث كان هو المحرك الرئيس للموجة السابقة من «الربيع العربي»، بالإضافة إلى عوامل أخرى مساعدة. فكان الجفاف الشديد الذي أصاب محصول القمح في روسيا عام 2010 قد أدى إلى ارتفاع هائل في الأسعار العالمية للقمح، في الوقت الذي يذهب فيه زهاء 80% من دخل المواطن المصري العادي على الغذاء، وهو ما يجعل من أي ارتفاع في أسعار الغذاء أمراً غير محتمل، ودفع حينها بالمواطنين إلى الشوارع.
بينما يزداد يومياً عدد الاقتصاديين (وفي طليعتهم عالم الاقتصاد الأمريكي نورييل روبيني)، ممن يتنبؤون بأزمة اقتصادية عالمية جديدة في 2020، إلّا أن الواقع، هو: أن الأزمة الاقتصادية التي حلت بالعالم عام 2008 لم تتوقف منذ ذلك الحين، وليست الأزمة الراهنة سوى بداية موجة جديدة من الأزمة القديمة، تظهر انعكاساتها في انهيار الليرة التركية والبيزو الأرجنتيني، وهي في سبيلها للاتساع لتشمل العالم بأسره، بما في ذلك العالم العربي.
لكن أين يكمن السبب؟
يكمن السبب في الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 والأزمة الراهنة في الديون الكبيرة المتراكمة، فكانت الأزمة عام 2008 هي أزمة الرهن العقاري Subprime Mortgage، وهي أزمة تهافت البنوك الأمريكية على منح قروض عالية المخاطر، لم يتمكن الأمريكيون من دفعها، فتدحرجت الأزمة ككرة الثلج لتهدد كامل قطاع البنوك الأمريكية والأوروبية أيضاً. ومن أجل الخروج من هذه الأزمة لجأت الحكومات الغربية إلى شراء الديون السيئة Bad Debts من البنوك، وطبع نقود غير مغطاة، وتوسيع قاعدة نقدية غير مغطاة بالبضائع، وفي تلك المرحلة كانت طباعة النقود تتم في الولايات المتحدة وحدها، إلّا أنه في مرحلة لاحقة، وحينما طالت أزمة الديون في أوروبا، شرعت البنوك المركزية الأوروبية هي الأخرى في طباعة النقود غير المغطاة، وغمرت بها الأسواق، لتنتقل العدوى إلى اليابان وبريطانيا والصين، حيث انتشرت قروض بعملات الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني حول العالم، في محاولة لتحفيز الإنتاج والاستهلاك.
لكن عملية طباعة النقود تحمل معها خطورة التضخم المفرط، وهي خطورة تعيها السلطات المالية كافة حول العالم، لذلك تسعى البنوك المركزية الآن إلى خفض المحفزات، ثم سحب تلك النقود غير المغطاة من دورة المال، لذلك يتعين سحب الدولارات التي تمت طباعتها بعد أزمة عام 2008، وطرحت في الأسواق العالمية على هيئة قروض، في الوقت الذي لن تتمكن فيه حكومات وشركات الدول النامية من الآن فصاعداً من الحصول على قروض أخرى، أو ربما تحصل على قروض بنسب فائدة أعلى بكثير.
هذا هو ما أدى إلى ارتفاع الدولار في الفترة الأخيرة، وما شجّع على أزمة العملات في الدول التي تعاني من ديون خارجية مرتفعة، وعجز كبير في ميزان التجارة والمدفوعات الخارجية بالإضافة إلى مخزون إستراتيجي محدود من العملة الصعبة. من هنا لا تبدو الأرجنتين وتركيا سوى بداية الأوراق الساقطة، التي ستتّبعها قريباُ دول عربية كثيرة.
على نحو مبسّط، سوف يتعيّن على الدول العربية التي تعاني من ديون خارجية مرتفعة، أن تحصل على قروضٍ جديدةٍ بنسب فائدة مرتفعة، حتى تسدد الديون القديمة للبنوك الأمريكية، وهو ما يعني مصاريف إضافية سوف تتحملها موازنات هذه الدول، التي تعجز مداخيلها أساساً عن تغطية الموازنة.
بالتوازي، سوف يدفع انخفاض الاستثمار الأجنبي إلى انهيار أسواق البورصات المحلية، وهو ما سيدفع إلى تدهور الظروف الاقتصادية في البلاد، ثم هروب رؤوس الأموال، وتخفيض قيمة العملة، الأمر الذي سيدفع، بالتوازي مع العجز في ميزان التجارة الخارجية، إلى ارتفاع أسعار البضائع المستوردة، وارتفاع أسعار السلع والمنتجات بصفة عامة، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى زعزعة الاستقرار السياسي.
ولكي نستوعب صعوبة مواقف بعض الدول العربية، علينا أن نلقي نظرة على الجدول المرفق الذي يعرض بيانات الربع الأول من العام الجاري 2018.
بيانات الربع الأول من العام 2018
وفقاً للجدول*، سترتفع حاجة الدول صاحبة الدَّين الخارجي المرتفع مثل: لبنان ومصر والأردن إلى العملة الصعبة كي تدفع مستحقات الديون، وهو ما سيخلق مصاعب إضافية لدى مصر ولبنان، لأنهما يعانيان من عجز كبير في الموازنة، قد يفرض على حكومتي البلدين، ربما، طبع نقود غير مغطاة، الأمر الذي سوف يؤدي إلى تسارع في التضخم المتفاقم أصلاً في مصر على سبيل المثال.
كما لن تتمكن الدول التي تعاني من عجز في ميزان المدفوعات الخارجية من الإفلات من مصير تخفيض قيمة العملة بالنسبة للدولار، وهو ما سيتبعه ارتفاع أسعار البضائع المستوردة، وتسارع التضخم، ومن ثم انهيار البورصات المحلية في هذه الدول، التي تنتمي إليها نصف الدول العربية.
لكن الخبر السيّء، هو: أن هذه الموجة لا زالت في بداية تطورها، ولم تتلق الأسواق النامية الضربة بكامل قوتها بعد، ومن المفيد أن نتذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية قد رفعت خلال 10 أعوام كمية الدولارات المتداولة في الأسواق العالمية من 800 مليار دولار عام 2008 إلى ما يقرب من 4,2 تريليون دولار في الوقت الراهن، بينما تمكن الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة الأمريكية من سحب 250 مليار دولار فقط من التداول في العام الماضي، وهو ما يعني أن الاحتياطي الفيدرالي لم يتمكن من سحب سوى 5% فحسب، من الدولارات المتداولة، بعد مرور زهاء عام كامل، وهي نسبة ضئيلة جداً بالنسبة لتضخم حجم الدولارات المتداولة خلال العشر سنوات بأكثر من 5 أضعاف في الفترة من 2008-2018.
لا يبدو أن مصير أي من الدول التي حصلت على قروض بالدولار يهم الولايات المتحدة الأمريكية، فالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يعتمد على المؤشرات الأمريكية المحلية، ويعتزم المضي قدماً في سحب الدولارات من التداول، حتى لو أدى ذلك إلى تفاقم أزمة الأسواق النامية.
كما ستسهم الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعميق هذه الأزمة، وأعتقد أن موجة الأزمة الاقتصادية العالمية القادمة لن تنتظر حتى العام 2020 لتبدأ، بل من الممكن أن تبدأ فعلياً خلال العام الجاري.
بالطبع فإنه إذا ما، أو بالأحرى حينما ستتبع الأرجنتين وتركيا دولاً أخرى في السقوط، فإن ذلك سوف يكون بداية لموجة جديدة من الأزمة العالمية، وسوف تضرب تلك الأزمة الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، لكنني أخشى أن السلطات المالية في الولايات المتحدة لن تتراجع في إستراتيجياتها المالية حتى وصول الأزمة إلى أراضيها.
وعلى ذلك فإن السؤال بالنسبة للدول العربية لم يعد يدور حول «ما إذا»، ولكنه يدور حول «متى» و «من ستكون أولى الدول» التي تبدأ فيها الأزمة، وإذا كانت الموجة السابقة من «الربيع العربي» قد نجمت عن أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، فما أخشاه أن تواجه دول عربية هذه المرة أيضاً تحديات من النوع نفسه.
المحلل السياسي ألكسندر نازاروف