جديد الأزمة.. تطابق الاقتصادي والوطني
تشير تطورات الأحداث في تركيا، وتحديداً وضع عملتها المحلية، إلى جملة حقائق تتعلق بطبيعة جهاز الدولة في البلدان الطرفية، والعلاقة بين السياسي والاقتصادي– الاجتماعي في البلدان الطرفية، ومدى حرية هذه الدول في اتخاذ القرارات المستقلة، ومن ثم نمط العلاقات الدولية السابق ومآلاته، في ظروف الأزمة الرأسمالية العظمى.
فالحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة على تركيا، وما تمخض عنها من تراجع دراماتيكي في قوة العملة المحلية ينبغي أن تكون درساً لكل من اعتمد النموذج الاقتصادي الليبرالي، وتوهم بإمكانية حدوث تنمية حقيقية من خلال هذا النموذج،
في ظروف الأزمة تسعى النخبة الرأسمالية العالمية إلى إعادة تمركز وتركز جديدين للثروة، التي تتجسد في بقاء الدولار كعملة تبادل أساسية ووحيدة، بعد ظهور خيارات بديلة، فلا الصداقات ولا العلاقات الواسعة، ولا التحالفات التاريخية يمكن أن تقف عائقاً، بل كلها فداء لهذه الضرورة التي لا بد منها لصالح «صاحب الجلالة» رأس المال.
تركيا حتى الآن، هي المثال الفاقع، على هذه العملية (شفط الثروة) التي تأخذ أشكالاً متعددة، في مناطق عديدة من العالم فما يسمى العقوبات التي تفرضها واشنطن شرقاً وغرباً إلا ستارة خجولة لهذه العملية، وما صفقات السلاح الوهمية مع ممالك البترودولار إلا جزءٌ من هذه العملية، وما محاولة فرض إتاوات على الحلفاء في الناتو، وصولاً إلى الانقلابات والثورات الملونة في أمريكا اللاتينية إلا شكلٌ من أشكال هذه العملية، وكذلك بالنسبة لكل ما يجري في عالم اليوم من توترات بغض النظر عن درجة شدتها وأدواتها وأشكالها.
حيث بات في حكم الممنوع اتخاذ أي قرار وطني مستقل، وأي موقف سياسي، لتتحول هذه القضية إلى قضية سياسية بامتياز، وتحاول أن تطيح بالهوامش السابقة في اتخاذ القرارات الوطنية، فالقضية
الاقتصادية تتحول موضوعيّاً إلى قضية وطنية، بمعناها الكلاسيكي، أي: وحدة وسيادة البلدان التابعة بالمعنى المباشر.. والحال هذه فإن هذه البلدان تجد نفسها مضطرة إلى خوض معركة وطنية، يفرضها سلوك «رأس المال» المأزوم، وإن كانت تأخذ شكلاً اقتصادياً، بمعنى آخر يتطابق الاقتصادي مع الوطني، وأصبحت النخب الحاكمة أمام خيارين:
إما أن تصبح جزءاً من مشكلة بلدانها وبالتالي تفقد ما تبقى من مبررات وجودها.
أو تحاول الخروج من دائرة التبعية وتتخذ مواقف مستقلة، إذا ما زالت تمتلك شيئاً من العزم لتخرج هي وبلدانها بأقل الخسائر.
وبغض النظر عن التفاعلات العابرة لهذه القضية، فإن سلوك طغمة رأس المال العالمي يؤدي باستمرار إلى توسع دائرة خصومها يوماً بعد يوم، مما يعني خسارة مواقع جديدة باستمرار. لاسيّما وأن سلوك هذه الطغمة يؤدي إلى تحويل المعركة إلى معركة الكل الوطني، وتدفع قوى عديدة دفعاً إلى مواقع الخصم، الذي يشكل المثال التركي أحدَ أبرز نماذجه حتى الآن.