«أمريكا» تخضع للأمر الواقع
سيلتقي الرئيسان الأمريكي والروسي في العاصمة الفنلندية في 16 تموز، حيث لاختيار الزمان والمكان دلالات عدة: فاللقاء يأتي عقب اجتماع ترامب مع أعضاء الناتو، الذي سيفقد دوره الوظيفي في حال إنهاء حملات «شيطنة روسيا» التي تقودها الولايات المتحدة. وسيتم في المدينة التي تم فيها أول لقاء بين بريجنيف والرئيس الأمريكي فورد عام 1975، تلك اللقاءات التي اعتبرت أولى مؤشرات إخماد الحرب الباردة. ولكن بين ذلك التوقيت وعام 2018 الكثير من المتغيرات؛ فبينما كانت نهايات الحرب الباردة هي بدايات صعود عالم القطب الأمريكي الواحد، فإنّ القمة القادمة لها مضامين عكسية في العلاقات الدولية.
يأتي لقاء الرئيسين الأمريكي والروسي كمؤشر على الوصول إلى توافقات حول العديد من القضايا المشتعلة عالمياً:
فمن كوريا إلى سورية فأوكرانيا: الأزمات الدولية التي سلكت فيها الولايات المتحدة مساراً عسكرياً تصعيدياً، والتي يبدو أنها وُضعت على سكة الحل بنسب متفاوتة، لتنتهي اليوم إمكانات التصعيد العسكري فيها دون رجعة ويتم الشروع بمسارات حلها السياسي تدريجياً. وسيكون هذا بمثابة الإعلان عن إنهاء مرحلة استخدام الهيمنة العسكرية لفرض «القطب الواحد».
وصولاً إلى القضايا الأكثر احتداماً، والتي تستخدم فيها الولايات المتحدة نفوذها الاقتصادي والتجاري والمالي مثل: الملف النووي الإيراني، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية، وحملة التعرفات الجمركية التي تشكل بدورها عقوبات اقتصادية دولية غير مباشرة. حيث تحولت هذه الأدوات إلى السلاح الأساسي في المعركة الاقتصادية التي تقودها أمريكا عالمياً، ولكن استخدام هذه الأسلحة هو أيضاً «استعدادٌ للتفاوض» في ظل أزمة اقتصادية عالمية تهدد الغرب أولاً.
الولايات المتحدة تنقسم على نفسها لأنها لا تستطيع أن تقبل خسائر تراجع هيمنتها بسهولة، وهي ستستمر بإخراج ما في جعبتها من أدوات لإعاقة السير الموضوعي للتغيرات. ولكنها عملياً تقترب من الرضوخ للتوازنات الدولية التي فرضت عدم قدرتها على لعب دورها السابق، ويتجلى هذا برفع شعار «أمريكا أولاً» وتدهور علاقاتها مع الحلفاء، وعدم قدرتها على انتشالهم. ويظهر أيضاً من لا مبالاتها بمصير تمويل الناتو، ودعوتها لمناقشة سباق التسلح العالمي، حيث لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تمويل السلاح بالمال، طالما أن هذا السلاح لن يستطيع أن يحمي هيمنتها الاقتصادية والمالية العالمية.
اللقاء بين الرئيسين سيكون من حيث الشكل إعلاناً لجملة من التوافقات، ومساراً تفاوضياً لتهدئة التوتر العالي بين الدولتين. ولكنه بالمضمون سيمثل خطوة نحو الإعلان الأمريكي للقبول بتوازنات الأمر الواقع، حيث تعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى موقعها الطبيعي: كواحدة من قوى عالمية عديدة تساهم برسم العلاقات الدولية.
خريطة القوى العالمية تغيرت وتتغير، ولهذا تأثيرات سياسية واسعة على مسار الأزمات الدولية، أهمها الفرصة الجديّة الماثلة أمام شعوب العالم لتستفيد من تراجع الدور التدميري الأمريكي السابق، فرصة يجب أن يقرأها كل السوريين أصحاب المصلحة الحقيقية بانتشال البلاد من أزمتها.