بولتون في موسكو... والمنطقة الجنوبية إلى الحل
بعد سنة كاملة من البروباغندا الصفراء ضد روسيا، وبعد تشديد العقوبات عليها لأكثر من مرة، وبعد إكراه الحلفاء على المشاركة في فرض هذه العقوبات، وبعد تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وبعد اعتبار روسيا التحدي الأول حسب استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، وبعد وصول العلاقات بين البلدين إلى مستوى غير مسبوق من التوتر، بعد كل ذلك... قررت الإدارة الأمريكية إرسال ممثل لها للقاء القيادة الروسية!.
لم يكن المبعوث شخصاً عادياً بل أحد أهم المتشددين في الإدارة، المستر جون بولتون، مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي، وذلك لبحث العلاقات بين البلدين، والاتفاق على قمة بين الرئيسين الروسي والأمريكي بهذا الخصوص..
يا للعجب! فمستشار الرئيس للأمن القومي صاحب سياسة عدائية لروسيا، ظهرت مراراً في العديد من المناسبات، وكان آخرها حديثه لـ «فوكس نيوز» عقب حادثة تسميم الجاسوس الروسي في مدينة سالزبوري ببريطانيا، سيرجي سكريبال، حيث قال: «إذا لم نتخذ خطوات معينة بشكل عاجل، فإن سالزبوري لن تكون المكان الأخير، حيث استخدم سلاح كيميائي، وأعتقد أنه يتعين علينا الرد على روسيا بمنتهى القسوة».
ما سبق يشير إلى:
تأكيد على أن التيار المتشدد في الإدارة، استنفذ أوراقه للإبقاء على هذا الوضع الشاذ من العلاقات، بين أهم قوتين نوويّتين على النطاق العالمي. بما يخالف أي منطق عقلاني، لاسيما وأن هذا الوضع يتناقض مع برنامج ترامب الانتخابي على طول الخط، بمعنى آخر، اضطر ذاك التيار على الأقل أن يبحث هذا الموضوع رسمياً. لتكون زيارة بولتون، مؤشراً جديداً على التراجع العام لدور الولايات المتحدة.
صلافة بولتون المعهودة، لم تسعفه في تبرير هذا التحول في طريقة تعاطي الإدارة مع روسيا، لا بل كان التهرب «الذكي» عن تلك المواقف الاستفزازية السابقة واضحاً في ثنايا حديثه في المؤتمر الصحفي، فتلك المواقف أصبحت «طي الماضي» حسب زعمه.
أن يتبوأ بولتون بالذات، مهمة فتح الطريق لبحث العلاقات الثنائية، يحمل أكثر من معنى، فهو من جهة درس بليغ لتلك الرؤوس الحامية، ومن جهة أخرى، يحمل إمكانية الالتفاف على محاولات القوى العاقلة بتهدئة التوتر في العلاقات بين البلدين، فالرجل كما كتبت عنه «الواشنطن بوست»، يتمتع بخبرة كبيرة في العمل البيروقراطي، ويعرف كيفية عمل النظام. واختلاق الذرائع لعرقلة ما لا يريد.
من التوتير إلى التراجع
كانت السمة الأساسية للدبلوماسية الأمريكية خلال الأشهر السابقة، توتير العلاقات مع جميع الدول، ليس الخصوم فقط، بل والحلفاء التقليدين أيضاً، وإجراء تفاوض معها في الوقت نفسه، ولكن كلاً على حدة، لعل وعسى تفلح في ابتزاز هذا الطرف أو ذاك، فالعالم الذي تريده أمريكا، هو عالم هش، يشوبه الكثير من التوتر، والخلافات، مفتعلة كانت أم واقعية، بحيث تبقى هي القوة الأقوى، أي: ضرب الكل بالكل، بالطريقة الناعمة، فأوروبا يجب أن تتضامن مع الولايات المتحدة بفرض العقوبات على روسيا، والولايات المتحدة من حقها في الوقت نفسه أن تفاوض روسيا على حدة، وكل دولة من دول الاتحاد الاوروبي على حدة، بعبارة أخرى، إن قوة الولايات المتحدة باتت في ضعف وإضعاف الآخرين، وليس بـ«تفوقها النوعي» السابق، ومن الجدير بالذكر، أن هذه الممارسة الدبلوماسية ليست وليدة رغبة، أو سوء تقدير، بل هي السياسة التي لابد منها، في ظل التحول النوعي الجاري في العلاقات الدولية، وبروز دور ووزن قوى دولية صاعدة، في الاقتصاد والسياسة والعسكرة بموازاة الدور الأمريكي، وسعيها المعلن إلى كبح الجموح الأمريكي.
وها هو، وقبل أن يغادر موسكو، أوضح مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جون بولتون، أنه «من المهم أن يلتقي رئيسا هذين البلدين الرئيسين لمناقشة المشاكل المتبادلة ومجالات التعاون».
وأضاف: «لا أستبعد أن يتوصلا إلى اتفاقات ملموسة لكن هناك عددٌ كبيرٌ من القضايا التي يجب التطرق اليها».
المنطقة الجنوبية..
بالتزامن مع زيارة بولتون، كانت الإدارة الأمريكية قد أرسلت رسائل واضحة إلى الجماعات المسلحة في المنطقة الجنوبية من سورية، بأن الولايات المتحدة لن تدعمها في الحرب الدائرة هناك، بعد أن عزم الجيش السوري على بسط سلطة الدولة على تلك المنطقة، سواء بالحرب على الجماعات الإرهابية، أو عبر الاتفاقات بالنسبة للجماعات التي تقبل التفاوض، ويعتبر هذا الانكفاء الأمريكي الجديد أول الغيث في سلسلة تراجعات أخرى بالنسبة لسورية، حسب رأي العديد من المحللين، خصوصاً، وأن الوضع في سورية سيكون إحدى النقاط الأساسية على جدول الأعمال في اللقاء المرتقب بين الرئيسين الأمريكي والروسي، حسب نتائج زيارة بولتون المعلنة، وكانت الناطقة باسم الخارجية الروسية قد صرحت، بأن الولايات المتحدة لم تف بالتزاماتها في منطقة خفض التصعيد.
شو عدا ما بدا؟
سيكون الوضع السوري، أحد أهم القضايا على جدول الأعمال في قمة هلسنكي المرتقبة، بعد أشهر من محاولات واشنطن المستمرة بإيجاد ذرائع للتدخل، من خلال بروباغندا «الكيماوي» وإجهاض دور الطرف الروسي، بدعم الجيش السوري لإنهاء ظاهرة العمل المسلح في سورية، ودفع الوضع نحو التفاوض والحل السياسي للأزمة بموجب القرارات الدولية، وذلك على عدة مسارات من مناطق خفض التصعيد، إلى إحياء مسار جنيف، إلى إبداع خيار سوتشي، وفكرة اللجنة الدستورية. إن عودة واشنطن إلى إجراء مباحثات مع الطرف الروسي حول سورية، رغم ثبات خط موسكو، يعني أن مجال المناورة الأمريكية في استدامة الاشتباك بات أضيق من السابق، وأن الخيارات الأمريكية السابقة كلها، وصلت إلى طريقٍ مغلقٍ، وإن أدواتها السابقة لم تعد تفي بالغرض.
فرصة ذهبية جديدة
في ظل هذا المشهد، تتوفر للوطنيين السوريين فرصة جديدة، للاستفادة من استعداد الولايات المتحدة للتباحث مع الطرف الروسي الثابت على مواقفه المعروفة، من خلال الإسراع بتشكيل اللجنة الدستورية، كبوابة للدخول إلى استئناف مفاوضات جنيف المجمدة، وذلك من خلال الإسراع بتشكيل هذه اللجنة، ليساهموا بقسطهم في فرض المزيد من التراجع على واشنطن، وحل الأزمة السورية، بما يحافظ على وحدة وسيادة البلاد.