أوروبا و«الشقيق الأكبر»
تظهر يوماً بعد يوم مؤشرات جديدة في العلاقات الدولية، لتؤكد بأن الوضع الدولي، وضمن الأفق المنظور، مقبل على تحولات نوعية كبرى، آخر هذه المظاهر، وأكثرها تأثيراً هي الخلافات المتصاعدة مؤخراً بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، حول الكثير من الملفات، بما فيها العديد من البنى الاقتصادية والسياسية الأساسية المشتركة، التي تعتبر أعمدة المركز الرأسمالي الغربي، وأدواته في الهيمنة.
بات الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاقات الدولية، من وراء ظهر الحلفاء التاريخيين، سمة أساسية في السياسة الامريكية، وبالإضافة، إلى ذلك تحاول الولايات المتحدة التعامل مع كل دولة من دول الاتحاد الاوروبي على حدة، بدلاً عن التعامل معها كمؤسسة، فمن الابتزاز الأمريكي للحلفاء الأوربيين، في موضوع النفقات الدفاعية، والاستحقاقات المالية لأعضاء حلف الناتو، وتصريحات الرئيس الأمريكي عن الحلف في بداية تبوئه منصب الرئيس، إلى الانسحاب من اتفاقية المناخ، إلى الرسوم التجارية على الصلب والألمنيوم، إلى الخروج عن التوافق الدولي حول وضع مدينة القدس الفلسطينية، كلها شكلت مقدمات انقسام في الحلف غير المقدس.
كانت النخبة السياسية الأوروبية الحاكمة حتى وقت قريب، تحاول تجنب تعميق الخلاف مع «الشقيق الأكبر»، عجزاً أو تواطؤاً، ولكن رعونة هذا الشقيق، وحالة التخبط في دائرة صنع القرار الأمريكي التي لم تعد تخفى على أحد، باتت تدفع حتى أقرب الحلفاء، إلى البحث عن طريق الخروج من مأزق التبعية المزمنة، والمحرج، وتبعاتها الكارثية، لدرجة دفعت رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، إلى التصريح قائلاً: «لا حاجة لأعداء بصحبة حلفاء مثل الولايات المتحدة الأمريكية».
وبعد أن عجز كل من المستشارة الالمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي ماكرون عن إقناع الرئيس الأمريكي بالعدول عن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، يمكن القول، بأن العلاقات بين دول الحلف الغربي، دخلت طوراً جديداً، عنوانه العريض بداية الانقسام، وتعمقه التدريجي، بدلالة التسارع الأوروبي إلى توسيع العلاقات مع روسيا الاتحادية، رغم التشدد الأمريكي في هذا المجال، وما يعزز هذه الحقيقة، هو اللقاءات الأخيرة للرئيس الروسي، مع حليفي واشنطن، ميركل وماكرون، والاتفاقات التي عقدت، رغماً عن الموقف الأمريكي، والإشارات التي حملها التصريح «العرضي» لفلاديمير بوتين، حول إمكانية تقديم المساعدة الأمنية لأوروبا، والتعاون المشترك في هذا المجال، بالإضافة الى المؤشرات التي حملتها نتائج الانتخابات الايطالية، وفوز القوى التي تدعو إلى علاقات واسعة مع روسيا، تؤكد أن التوجه الاوروبي نحو الشرق بات مرجحاً.
وإذا كان الانقسام السوفييتي – الصيني في القرن الماضي مؤشراً أساسياً، على تراجع دول المنظومة الاشتراكية، وأحد مقدمات الانهيار الكارثي الذي حل عام 1991، فإن الانقسام الامريكي – الأوروبي اليوم، يشكل بداية بالاتجاه الآخر، أي بداية، لتسارع التراجع في وزن ودور المركز الرأسمالي الغربي عموماً، بكل ما يعنيه ذلك، بما فيه الطبيعة الاقتصادية الاجتماعية للبنية، المحكومة بالتراجع في ظل أزمة عصية على الحل.