أستانا 9 هل تأخر كثيراً؟
تعقد يومي 14 و15 أيار الجولة التاسعة من مباحثات أستانا حول الأزمة السورية، وذلك بعد انقطاعٍ امتد ما يقرب من خمسة أشهر..
إنّ أول نقطة يمكن تسجيلها بما يخص أستانا القادم، هو: انعقاده؛ إذ لا يمكن وصف الأشهر الخمسة الماضية من عمر المأساة السورية بأقل من أنها كانت الفترة الأكثر خطورة وتصعيداً على المستويات المختلفة، وعلى رأسها المستوى الدولي، حيث وصلت الأمور إلى حافة الصدام المباشر أكثر من مرة، وتحولت المؤسسات الدولية المختلفة، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي إلى «ورشة عمل» دائمة الانعقاد تقريباً حول الملف السوري، وربما الأصح: إنها تحولت إلى ساحات صراع مشتعل ومتوتر.
لعل الفترة الفاصلة بين أستانا 8 وأستانا 9، ليست بالفترة الطويلة التي يمكن أن يبنى عليها الكثير؛ مجرد خمسة أشهر، بينما امتد الفاصل الزمني بين جنيف2 (شباط 2014) وجنيف3 (شباط 2016) إلى سنتين. مع ذلك فإنّ حسابات الزمن اختلفت، وحملت معاني جديدة ابتداء من الدخول الروسي المباشر في أيلول 2015، الذي سرعان ما أنتج القرار 2254، والذي تحول بدوره إلى منطلق الحل وبوصلته، وإلى مقياس جديد للزمن السوري، جرى تثبيت سرعة تدفقه عملياً من خلال مسار أستانا.
انطلق مسار أستانا في الشهر الأول من العام 2017 بجولته الأولى، وانتظم انعقاده بشكل متواتر على مدى عام 2017، حيث عقدت 8 جولات منه ضمن العام الماضي، بتواتر وسطي، هو: جولة كل شهر ونصف، (ومن هنا نقول: إن 5 أشهر من الانقطاع، هي مدة طويلة يحمل طولها إشارات جدية).
غيّر مسار أستانا (ولا نزال نتحدث ضمن الشكل)، من وتائر انعقاد جولات جنيف؛ إذ يفصل بين جنيف2 وجنيف3 عامان، وكما هو معروف، فقد جرى «تعليق» المفاوضات في حينه، واستمر الانقطاع بعد ذلك مدة سنة، وهذه الفواصل كانت قبل أستانا. بعد أستانا عقدت 6 جولات من جنيف ضمن عام واحد، ضمن تواتر وسطي هو: جولة كل شهرين، وكل جولة من جولات جنيف كانت تأتي مدفوعة بأستانا الذي سبقها، وليس العكس. آخر جولة من جنيف، أي: الجولة التاسعة، عقدت نهايات الشهر الأول من هذا العام، أي: منذ أربعة أشهر، وليس واضحاً متى ستكون الجولة التالية، (أي: أنّ التأخر في أستانا انعكس مباشرة على جنيف).
من المؤشرات الهامة التي سبقت جولة أستانا التاسعة، هو: التصريح الملفت لستافان دي مستورا، يوم السادس والعشرين من نيسان الماضي، والذي قال فيه: إن «عملية أستانا قد استنفدت جميع طاقاتها»، والملفت في التصريح، هو تناقضه الحاد مع تصريحات دي مستورا نفسه قبل ذلك بأسبوع فقط، في العشرين من نيسان وعقب زيارته لموسكو، ولقائه مع وزيري الخارجية والدفاع، حيث أكّد أنّ «اجتماعات أستانا يجب أن تعقد بانتظام» وأنّ «أستانا شكل مهم جداً».
إنّ تصريح دي مستورا تجاه أستانا، يمكن أن يُقرأ ضمن حملة غربية متكاملة الأوصاف ضد أستانا، ويبدو أنّ تلك الفترة بالذات، أي: نهايات الشهر الماضي، وضمن الزخم المحدود والشكلي للعدوان الأمريكي البريطاني الفرنسي على سورية، ساد لدى بعض الأوساط وهَمٌ: أنّ هنالك فرصة لكسر مسار أستانا ولكسر 2254 من ورائه، والعودة بالصراع إلى ما قبل ذلك، إلى صراع مفتوح لا حل له، ولا توافق ولو بالحد الأدنى على اتجاه حله.
يمكن رصد هذا الوهم من خلال تصريحات «أقطاب إعلامية» ضمن المعارضة، ممن يتبنون التشدد قولاً وفعلاً، (مقارنة بالبعض ممن يدّعي المرونة ويمارس ضدها وصولاً لتوسل التصعيد العسكري)، فهؤلاء باتوا يهاجمون أستانا علناً، وافترقوا بذلك عن تركيا، ويمكن أن نرصد أنّ الأكثر تهجماً على أستانا هذه الأيام، هم: المعارضون المحسوبون على الولايات المتحدة، وعلى السعودية وبعض الدول الأخرى، بمقابل موقف موارب ووسطي من «المحسوبين» على تركيا؛ فهؤلاء أيضاً «محسوبون»، وليسوا كذلك بالضرورة...
يمكن تلخيص أهم ما أنجزته أستانا حتى الآن بالنقاط التالية:
1_ الانتقال من حالة الصدام الشامل، التي كانت ممتدة على كامل مساحة الأرض السورية، إلى صدامات جزئية، مما وفّر أرواحاً ودماً سورياً، وأفسح المجال للتفكير على الأقل بالوصول إلى حل سياسي بعيد عن احتمالات كسر العظم، التي لا أساس موضوعياً لها (الحسم والإسقاط).
2_ التقليص التدريجي لنفوذ عدد كبير من الدول التي كانت متدخلة ضمن الشأن السوري، وعلى رأسها الدول الخليجية التي انخفض وزنها بشكل متسارع مع كل جولة جديدة من أستانا، وكذلك الأمر مع عدد من الدول الأوربية التي كانت تأخذ شيئاً من الوزن عبر وسطاء.
3_ تقليص مساحات القتال والعمل المسلح بشكل متسارع، وخاصة في الأشهر الأخيرة، وهو الأمر الذي يعزز احتمالات اقتراب الحل السياسي، ويسقط الذرائع من المتشددين في مختلف الأطراف، والتي لطالما تمسكوا بها للهروب من استحقاقات الحل، الكبيرة منها والصغيرة.
4_ أجرت أستانا فرزاً جدياً ضمن القوى السورية في الطرفين، فبات واضحاً ضمن كل «طرف» من يسعى للحل فعلاً، ومن يقول بذلك ويفعل ضده، وهو ما يساعد على إعادة ترتيب القوى بما يسمح بعزل المتشددين.
5_ اشتغل مسار أستانا كمحركٍ دافعٍ لعملية جنيف، وذلك رغم أنّ هذا الأخير لم يصل إلى شيء جدّي بعد، بل استعمله المتشددون من الطرفين حتى الآن للّعب ضد ما أنجزته أستانا، عبر الإيحاء بانغلاق أفق التفاهم وانعدام إمكانية الحوار بين السوريين.
6_ ساعدت أستانا بشكل حاسم في تكوين معادلةٍ صلبةٍ ومتماسكةٍ، هي: ثلاثي (جنيف، أستانا، سوتشي) التي عملت في الفترة السابقة للحفاظ على القرار 2254 (وكان المستهدف الأساس من كل التصعيد خلال الفترة الأخيرة بما في ذلك العدوان الثلاثي)، والتي ستعمل في الفترة القريبة القادمة على تنفيذه...
إنّ مجرد انعقاد الجولة التاسعة من أستانا، بعد الأشهر الخمسة الماضية، شديدة الاشتعال وشديدة الخطورة، وحمّالة الاحتمالات المتعددة، بما في ذلك الاحتمالات الكارثية، إنّ مجرد الانعقاد يعني: أنّ المسار مستمر، وأنّ 2254 محصّن ضد محاولات استهدافه، عبر استهداف أستانا أو استهداف غيرها...