قرنان على ميلاد ماركس... و(الشبح» يجول

قرنان على ميلاد ماركس... و(الشبح» يجول

«إنّ التاريخ يطلق صفة أعظم العظماء على أولئك البشر الذين تشرَّفوا بالعمل من أجل الخير العام. والسّعيد، بالتجربة، هو ذلك الإنسان الذي يجعل أكبر عدد من الناس سعداء». كارل ماركس (5 أيار 1818 – 14 آذار 1883)

المولد
ولد كارل هينريش ماركس في 5 أيار 1818، في ألمانيا الرينانية (في بروسيا)، في مدينة ترير. كان والده محامياً ويهودياً تحول إلى البروتستانتية. أعظم ثوريي العصر الحديث هذا، كانت عائلته ميسورة ومثقفة وغير ثورية. وكانت الحياة الثقافية في موطنه، متأثرة بأفكار الثورة الفرنسية، رغم وجود التخلف الاقتصادي.

ماركس المراهق
«إن مرشدنا الأساسي في اختيار المهنة ينبغي أن يكون رفاه الإنسانية واكتمالنا الذاتي. ولا يظنّن أحدٌ أنّ هاتين مصلحتان متناقضتان فيما بينهما، أو أنّ إحداهما ستدمر الأخرى. بل على العكس، إنّ طبيعة الإنسان مكوَّنةٌ بحيث إنه لا يستطيع تحصيل كماله الخاص إلا بالعمل من أجل كمال وخير أخيه الإنسان. إذا عمل من أجل نفسه فقط، ربما يصبح رجل علم مشهوراً، أو حكيماً عظيماً، أو شاعراً ممتازاً. ولكنه لن يصبح أبداً إنساناً عظيماً كاملاً بحقّ.» (كارل ماركس وكان عمره 17 عام).
ركز ماركس في سنوات عمره بين (1830- 1835) على تعليمه المدرسي الثانوي، كما تلقى تعليماً علمياً في جمنازيوم ترير.

مراحل تطور فكر ماركس:
(وهي تنطبق على إنجلس أيضاً)

(1) مرحلة الصِّبا:
تمتد على الفترة 1837 – 1842 وهي مرحلة انتقالهما من التطلعات الديمقراطية العامة (المصاغة في كثير منها على أساس مثالي) إلى اﻷفكار الديمقراطية_ الثورية بعيداً عن المثالية واللاهوت.

(2) مرحلة تشكل الماركسية:
أ_ انتقالهما من الديالكتيك المثالي والديمقراطية الثورية إلى المادية الديالكتيكية والشيوعية: 1842- 1844 (الحوليات الألمانية الفرنسية. ومخطوطات 1844، والعائلة المقدسة.)
ب_ وضع أسس الفلسفة الماركسية: 1845-1848 وصولاً إلى البيان الشيوعي، الذي هو «برنامج التحويل الثوري على أساس المادية التاريخية.»
ج _ تشكل الاقتصاد السياسي الماركسي.
رغم هذا التقسيم، لا شك بأنّ مكونات الماركسية الثلاثة مترابطة ومتداخلة وكان كلّ تطوير في أحدها يدفع إلى تطور المكونين الآخرين.

لقاؤه الأول مع طبقة «المُخَلِّصين»
انتقل ماركس إلى باريس في أواخر 1843 حيث تواصل لأول مرة في حياته مع حركة منظمة للطبقة العاملة. أما إنجلس فكان خلال ذلك وقبل ماركس قد انخرط عملياً في حركة الطبقة العاملة، وبدأ بحثه عن أحوال الطبقة العاملة في إنكلترا، وكتب في أواخر 1842 مقاله الهام «خطوط عامة لنقد الاقتصاد السياسي»، والذي كان له تأثير حاسم وانعطافي على انتباه ماركس لأهمية الاقتصاد السياسي وتوجهه نحو دراسته. كان لقاؤهما الأول عام 1842 عرضياً وقصيراً. ولم يأتِ لقاؤهما الثاني عام 1844 إلا وقد وجدا نفسيهما على وفاق سياسي تام، وبدأت رحلتهما الرفاقية طوال العمر، وأخذا يؤسسان الماركسية كعلم.

ماركس المناضل بالفكر والممارسة
انخرط ماركس وإنجلس في نضال ثوري طويل عملي ونظري، فانضما إلى حركة الهيغليين الشبان، ثم تأثرا بفلسفة فيورباخ المادية، ثم أسسا فلسفتهما المستقلة المادية الديالكتيكية (الماركسية). ومن أبرز المحطات التاريخية للعمل الثوري لهما: تأسيس عصبة الشيوعيين 2 حزيران 1847، وإصدار البيان الشيوعي كبرنامج للحركة. المشاركة في ثورات 1848 في أوروبا، والتي تعرض ماركس بسبب نشاطه فيها إلى الملاحقة والتهجير من باريس وغيرها، والتي منيت بهزائم، انكبّا بعدها على استخلاص العبر والدروس منها لتطوير العمل الثوري اللاحق وتلافي الأخطاء. وقام ماركس بأعمال الدفاع القانوني والسياسي عن حركات الطبقة العاملة الثورية، كما في دفاعه عن الشيوعيين المعتقلين من السلطات البروسية في كولونيا 1852، ودفاعه عن ناشطي الحركة الشارتية في إنكلترا. انخرط ماركس في تأسيس أول منظمة بروليتارية أممية (رابطة الشغيلة العالمية_ الأممية الأولى) 1864- 1874، وظلّ ناشطاً فيها حتى انحلالها، وكان من أهم المحطات الثورية خلالها: ثورة كومونة باريس 1871 حيث انخرط ماركس في علاقات وطيدة مع الحركات الثورية والعمالية والاشتراكية الفرنسية مقدماً ما استطاع من عون فكري وعملي، ومتعلّماً من نجاحاتها وإخفاقاتها، صائغاً دروساً نظرية ثمينة للمستقبل.

الاكتشافان العلميان الأكثر ثورية لماركس
هما «الفهم المادي للتاريخ»، و»القيمة الزائدة»، وبفضلهما تحولت الاشتراكية من طوباوية إلى علم.
وبالنسبة لاكتشاف القيمة الزائدة أكّد إنجلس نسبة هذا الاكتشاف إلى ماركس، وصاغ ذلك في مقدمة الطبعة الألمانية 1883 للبيان الشيوعي:
«إن الفكرة الرئيسة التي تسود البيان من أوله إلى آخره ــ هي أن الإنتاج الاقتصادي لكل حقبة زمنية، وما ينتج عنه بالضرورة من بناء اجتماعي، يشكلان معاً أساس التاريخ السياسي والفكري لهذه الحقبة الزمنية. وبالتالي فإن التاريخ كله (منذ انحلال المشاعية البدائية للأرض) كان تاريخ صراعات طبقية. صراعات بين طبقات مستغِلّة وطبقات مستغَلّة، بين طبقات سائدة وطبقات مَسودة، في مراحل تطورها الاجتماعي المختلفة. وقد وصل هذا الصراع الآن إلى تلك المرحلة، التي أصبحت فيها تلك الطبقة المستغَلَّة المرهقة والمضطهَدَة (البروليتاريا)، لا يمكن لها أن تتحرر من نير الطبقة التي تستغلها وتضطهدها (البرجوازية) دون أن تُحرّر في الوقت نفسه، وإلى الأبد، المجتمع بأسره من الاستغلال والاضطهاد، ومن الصراعات الطبقية_ هذه الفكرة الأساسية تعود إلى ماركس وحده دون سواه.»
أما اكتشاف القيمة الزائدة فيعتبر من أهم العلامات المميزة لماركس في علم الاقتصاد السياسي. وجاء اكتشافها على مراحل. إذ استطاع ماركس (في نيسان_ أيار 1851) التوصل إلى تحديد مصدر القيمة الزائدة لكن دون أن يبحث بعد في تشعباتها مما أبقاه حتى ذلك الوقت ضمن نظرية القيمة والأجور لريكاردو. ولاحقاً (1857-1858) عندما كتب مخطوطاته الاقتصادية الأضخم والأهم، التي تعتبر المسودة الأساسية لرأس المال والمعرفة باسم «الغروندريسة»، عرض ماركس ولأول مرة بشكل مفصّل نظريته في القيمة، وعلى أساسها، نظريته في القيمة الزائدة. وكانت الغروندريسة عموماً حسب تقييم ماركس نفسه: أول صياغة علمية للأسس النظرية للشيوعية.

ماركس «المثقّف الكوني» والإرث المُغيَّب
يقول الرّاحل هادي العلوي: «القوى الخارقة لا وجود لها وإنما الخارق هو قدرة القطب الصوفي، أو المثقف الكوني على تحدي السلطة الطبيعية والدولة». وسيرة حياة ماركس وإنجازاته تشهد بأنّه مثقّفٌ كوني بهذا المعنى، ليس فقط بمعنى موسوعيّة علمه وثقافته، وأممية/ كونيّة قضيّته التي ناضل من أجلها، بل وبقدرته الكبيرة على إبقاء جذوة فكره مضطرمة رغم الصعوبات المادية والجسدية.
لذكرى ميلاد ماركس لسنة 1885 كتب إنجلس ما يلي (أي: بعد سنتين من وفاته):
«كان هناك فترة استراحة أخرى [اضطر خلالها ماركس للتوقف عن متابعة أبحاثه في الاقتصاد السياسي] بعد العام 1870، بسبب مرضه. وكالعادة خصص ماركس هذه الفترة لدارسات أخرى: الهندسة الزراعية، العلاقات الريفية في أمريكا، وبشكل خاص في روسيا، سوق المال والمصارف، وأخيراً، العلوم الطبيعية، مثل: الجيولوجيا، والفيزيولوجيا، وفوق كل ذلك أعمال مستقلة في الرياضيات. وقد شكلت هذه الدراسات محتوى دفاتر المقتطفات العديدة لهذه الفترة. ومع بداية العام 1877 عادت لماركس صحته بما يكفي لاستئناف عمله الرئيس.»
وفي الحقيقة لم تقتصر كتابات ماركس في العلوم الطبيعية المختلفة على سنوات مرضه السبع هذه، بل امتدت إلى النصف الثاني من حياته (1850_ 1883).
ومما يثير الأسف مع شعور مشروع بـ»المؤامرة» هو: أنّ المنشور حتى الآن هو حوالي النصف فقط (50%) من كتابات ماركس وإنجلس المتوافرة بشكل مخطوطات محفوظة في أرشيفات الغرب. وتتوافر منذ العام 2004 وحتى الآن الطبعة «الكاملة» لمؤلفات ماركس وإنجلس بالروسية والإنكليزية على الأقل، ولكنها في خمسين مجلداً فقط، علماً بأنّ مشروعاً لنشر الأعمال الكاملة فعلاً (المحفوظة كمخطوطات) بلغة الأصل (الألمانية) في مئة مجلد، كان قد انطلق فعلاً من دار نشر ديتز فيرلاغ بألمانيا الديمقراطية منذ العام 1972 ومازال مستمراً لكنه تباطأ بشكل كبير جداً بعد انهيار جدار برلين، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي).
ويقدر حجم المخطوطات الكاملة بنحو 55 ألف صفحة من الدفاتر الكبيرة (90% منها بخط ماركس، و10% بخط إنجلس) وهذا يعني: أنّ أكثر من نصف إرث ماركس ما زال غير منشور.

ماركس كعالم طبيعة
يجدر بالذكر أن كتابات ومخطوطات ماركس غير المنشورة، تدور بشكل رئيس حول دراسة العلوم الطبيعية والتكنولوجيا في زمنه، ولا سيما في الحقول التالية: الزراعة، الكيمياء الزراعية، البيولوجيا، الكيمياء، الجيولوجيا، علم المناخ والأرصاد الجوية، علم الأمراض (الباثولوجيا)، الفيزيولوجيا، التعدين، الميكانيك، الهندسة الميكانيكية، تاريخ العلم والتكنولوجيا، وفلسفة العلم.
ولأخذ فكرة سريعة عن غزارة اطلاع ماركس على العلوم الطبيعية نقتبس من رسالته إلى إنجلس (4 تموز 1864):
«مازالت أعاني من أنفي وفمي بسبب الإنفلونزا... خلال هذا الوقت، وبما أنني عاجز تماماً عن العمل، فقد قرأت كتب: فيزيولوجيا كاربنتر [1839]... كتاب شبورتزيم عن تشريح الدماغ والجهاز العصبي [1826]، وكتاب شلايدن وشفان عن الخلايا [1847، 1850]...».
لا مجال لذكر أبحاث ماركس في الأنثروبولوجيا وغيرها، ولكن للرياضيات خصوصية تستحق الإضاءة عليها.

ماركس كعالم رياضيات
إنّ اهتمام ماركس بالرياضيات، وكتابته لمجموعة دفاتر مخطوطات عن حساب التفاضل وتاريخ تطوره، جاء مترافقاً ومحرّضاً بانكبابه على دراسة الاقتصاد السياسي وتأليف رأس المال. كتب ماركس إلى إنجلس في 31 أيار 1873: «لقد اعتقدت (وما زلت أعتقد، في حال تمت دراسة المادة بشكل كافٍ) بأنني ربما أستطيع أن أحدد رياضياً القوانين الرئيسة التي تحكم الأزمات» (يقصد الأزمات الاقتصادية الدورية آنذاك).
إنّ قوة أفكار ماركس كما لاحظ الباحث باسكي (مترجم المخطوطات الرياضية الكاملة لماركس) تكمن بالضبط في محاولة تغيير الواقع القائم، وليس مجرد تفسيره. وكتابات ماركس عن حساب التفاضل تبيّن_ كما في أعماله بالاقتصاد السياسي_ أنه عندما تتوفر الشروط الموضوعية الضرورية ضمن النظريات الرياضية القائمة، فإنّ نظريات رياضية جديدة تتطور لتحلّ محلّها، ويتم ذلك عبر صراع بين الجديد والقديم. وهذه الطبيعة الديالكتيكية لتاريخ تطور الحساب (الكالكيولوس) هو بالضبط ما نجح ماركس في البرهان عليه في مخطوطاته الرياضية. حيث حاول أن يوضح تاريخ تطور حساب التفاضل من وجهة نظر مادية ديالكتيكية. ووفقاً لماركس فإنّ ذلك التاريخ يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل رئيسة:
(1) المرحلة «الصّوفية» في حساب التفاضل (تيلور، ماك_ لورين، نيوتن، لايبنتز): وتميزت بغياب فهم مؤسسي حساب التفاضل هؤلاء لجذوره «الجبرية». إذ كانت الفكرة السائدة هنا، هي: أنّ المشتق يعكس الحقيقة الموضوعية الخارجية فوراً وبشكلٍ مباشر، وعبروا عن ذلك بمفهوم «الزيادة متناهية الصغر» للمتحول المستقل. وهو ما اعتبره ماركس ضرباً من الميتافيزيقيا والصوفيّة لأنه يتجاهل «العملية الواقعية» في الحصول على المقدار الذي يعبّر عنه التفاضل رمزياً.
(2) المرحلة «العقلانية» في حساب التفاضل (دلامبير، أويلر): حيث صار المنطلق ليس التفاضل dx بل زيادة غير صفرية محددة لـ x (رمز لها بـ h) ومنه x1=x+h. ثمّ تتحول h إلى dx بجعل نهاية نسبة التفاضل تسعى إلى الصفر. وهنا يقول ماركس: أنّ التفاضل يظهر «بوصفه النسبة المشتقة من فروقات منتهية، بخلاف ما كان لدى الصوفيّين حيث كانت نسبة من التزايدات الجاهزة مسبقاً، والتي تمّ تزويدها بتعريفات dx أوx، وdy أوy». وهكذا صار يتم الحصول على النسبة dx/dy عبر عملية رياضية صحيحة operation، وصارت الرموز «يتم اختزالها من دون حِيَل». ولكن هذه المقاربة لمّ تحلّ بعد ما اعتبره ماركس المشكلة الأساسية، لأن تمثيل التغير في x ظلّ يتمّ عبر زيادة منتهية موجودة مسبقاً وبشكل مستقل عن x نفسها.
(3) المرحلة «الجبرية الصرفة» في حساب التفاضل (لاغرانج): حيث قدّم لاغرانج برهاناً جبرياً على نظرية تيلور، قام فيها بنشر f(x+h) إلى سلسلة قوى لـ h، حيث معامِلات h coefficients of هي توابع مشتقة لـ x ومستقلة عن h. ووفقاً لماركس فإنّ «نظرية لاغرانج عن التوابع المشتقة قدّمت أساساً جديداً لحساب التفاضل». لكن ماركس رأى أنّ عمل لاغرانج ما زال يعاني من المشكلة الرئيسة التالية: «إنه يقدم نشراً جبرياً صرفياً لجميع توابع (x+h) الممكنة في قوى موجبة لـ h ومتزايدة ومتكاملة، ومن ثم يعمِّد جميع المُعاملات الرياضية الناتجة عن ذلك، باسم الحساب التفاضلي. وبذلك فإنّ جميع التبسيطات والاختصارات التي يسمح بها حساب التفاضل نفسه، يلحق بها الضرر، وكثيراً ما يجري استبدالها بعمليات جبرية ذات طابع أثقل عبئاً وأكثر تعقيداً». كما لم يخفَ على ماركس ملاحظة أنّ نظريات بعض الرياضيين (نظرية تيلور مثلاً) «توصلت إلى نتائج صحيحة من مقدماتٍ خاطئة».
يعتبر باحثون، مثل: غليفينكو بأنّ مساهمة ماركس الأساسية في تطوير حساب التفاضل الرياضي تتمثل فيما يسمى «المقاربة العمليّاتية» operational لرموز التفاضل. وأول ما ظهر ذلك لدى ماركس في دفتره المخطوط «عن تقييم طريقة لاغرانج». كما وتظهر في دفترين آخرين («عن مفهوم التابع المشتق»، و»عن التفاضل») مساعي ماركس لاكتشاف المعنى العملياتي للتابع المشتق كما تكثفه رموز الاشتقاق. وكانت الخطوة الأولى هي: التعرف على خوارزمية الحصول على التابع المشتق، من أجل فئة التوابع التحليلية، والتي يمكن مقاربتها عملياتياً بواسطة نشرها إلى سلسلة من القوى. بعد ذلك يمكن تمثيل هذه العملية «الواقعية» بشكل رمزي باستخدام الرموز التفاضلية. وعندئذٍ فقط يمكن اتخاذ هذه الرموز كـ»نقطة انطلاق مستقلة» والتعامل معها جبرياً كأساسٍ لحسابٍ رمزي مستقل. وبذلك تكون هذه الرموز قد «تمّ تحويلها إلى رموز عمليّاتية؛ رموز لعمليات يتمّ تنفيذها».
يذكر بأنّ عالم الرياضيات الفرنسي جاك هادامار (1865-1963) توصّل بطريقته الخاصة وبشكل مستقل إلى نتائج مشابهة لما توصّل إليه ماركس بخصوص المقاربة العمليّاتية لحساب التفاضل، لكن بعد نصف قرن من ماركس!
وهذا يؤكد صحّة ما قاله إنجلس في كلمته على قبر ماركس (17 آذار 1883):
«في كلّ مجال بحث فيه ماركس_ وقد بحث في الكثير جداً من المجالات، دون أن يكون سطحياً في أيّ منها_ حتى في مجال الرياضيات، كان يصنع اكتشافاتٍ مستقلة.»

ماركس كناقدٍ أدبي وشاعرٍ
كان ماركس قارئاً مطلعاً على أهم أعمال الأدب العالمي، شكسبير، وغوته، وهايني... وقد جعل هذا المخزون الأدبي كتاباته نفسها تظهر في كثير من الأحيان كقطع أدبية فنية جميلة، حتى لو كانت تتناول موضوعاً علمياً أو اقتصادياً، كما يبرز ذلك في مواضع كثيرة من رأس المال. وفي المخطوطات الاقتصادية والفلسفية (1844) مثلاً: يصف ماركس التأثير اللاإنساني الاغترابي للمال، فيصف المال بأنه ذلك «القَوّاد بين الحاجة وموضوعها، بين حياة الإنسان ووسائل حياته»، ذلك «..الإله المرئي! الذي يصهر المستحيلات معاً، ويجعلها تتبادل القبلات! حتى تكون للوحوش إمبراطورية العالم!». وهو هنا يستعير تعبيرات شكسبير، في مسرحية «تيمون أثينا»/ الفصل الرابع، المشهد الثالث. وهذا لا يدل على ذائقته الفنية العالية، القادر على توظيفها لإيصال أفكاره بشكلٍ مؤثر فقط، بل ويدل على نفاذ بصيرة ماركس إلى روح عصره الرأسمالي، وإلى التعبيرات الدلالية والرمزية والفنية عن هذه الروح في أعمال الأدب العظيمة.
من قصيدة نغم (إلى حبيبته جين):
هل خَبِرتِ ذاك السّحرَ اللذيذ
إذ روحانِ تمتزجان، ثمّ تفيضان
في نفثةٍ شجيّة رفيقةٍ رقيقة؟
إذ تتوهّجان في وردةٍ أرجوانية
وتلوذان في حياء
لسريرٍ من طحالبَ ناعمات؟
هائمٌ ذا السحرُ عبر البلاد
ما من طلسمٍ يلجُمُه
ما من شمسٍ تُفشي مكانَه
لم يطلعْ من تراب
وما غذتهُ أرضٌ.
يخفق الزمان جناحيه
ويسوقُ أبولو خيولَه الجامحات
وتخبو الكلماتُ صوبَ الفناء
وهو أبداً في انتظار.
قوّتُه وحدها خلَقتْهُ
وما لعالَمٍ أو إلهٍ
عليه من سلطان.
(ترجمة ماجد حيدر_ شاعر كردي من العراق).
وروحه تجول...
«إنْ اخترنا ذلك الموقع في الحياة الذي نستطيع فيه، قبل كل شيء، أنّ نعمل من أجل الإنسانية، فلن تستطيع أية أعباء أن تثنينا، لأنها ستكون تضحياتٍ من أجل منفعة الجميع. وعندئذٍ لن نعيش بهجةً أنانية محدودة وتافهة. بل ستعود سعادتنا للملايين، وفي العمل ستحيا أفعالنا بهدوء ولكن بديمومة، وعلى رمادنا ستُذرف الدموع حرّى من مُقَلِ أنبل الناس.» (كارل ماركس).
لكن الهزائم والأزمات التي تُمْنى بها الإمبريالية اليوم كأعلى وآخر مرحلة في الرأسمالية، تخلق الظروف الموضوعية للطبقة العاملة الثورية لتشنّ معارك حاسمة ضد عدوها الطبقي، وتبني عالمها الجديد ونظامها الاشتراكي للقرن الواحد والعشرين، ولن يكون في مقبرة هايغيت في لندن سوى عظام كارل ماركس، أما روحه فإنها ستجول في كل مكان.