دروس الجلاء
تأخذ مفاهيم الاستقلال، والتحرر الوطني أشكالاً متعددة، تبعاً لضرورات المرحلة التاريخية للبلد المعني، والاستحقاقات الموضوعية التي تفرض نفسها على جدول الأعمال.
أولاً: إن تحقيق الاستقلال الوطني في 17نيسان عام 1946 يعتبر منجزاً تاريخياً، وإحدى الضرورات التاريخية التي تتعلق بالوجود والكرامة والتعبير عن الذات، ومن هنا فإن الرؤية العدمية التي بدأت تظهر تجاه هذا التاريخ الوطني، لا وصف لها، إلا كونها تعبيراً عن العجز والدونية تجاه الآخر من جهة، والخيانة الوطنية من جهة أخرى، وإحدى محاولات إعادة صياغة الوعي التاريخي بحيث يتم قبول أي شيء.
ثانياً: الاستقلال الوطني ليس منجزاً لذاته، بل هو الأساس الذي لابد منه لاستكمال عناصر «الذات الوطنية» بكل أبعادها، فمفهوم النضال الوطني يبدأ بتحقيق الاستقلال السياسي، ولكن لا يقف عنده، وهو شرط لابد منه، ولكنه غير كافٍ، بل ينبغي أن يرتقي باستمرار، وصولاً إلى نظام سياسي ضامن للحفاظ على هذا المنجز من جهة، وتعميقه وإيصاله إلى غايته المنطقية، وهي: تأمين الحاجات الأساسية للإنسان.
ثالثاً: تزامنت مشاريع ومحاولات استكمال النضال التحرري، بمحتواه الاجتماعي في سورية بداية الستينات، مع تكون آليات الاستعمار الجديد على المستوى الدولي، ولم تستطع الشرائح الاجتماعية التي صعدت إلى السلطة على سلم المشروع القومي، استكمال المهمة بسبب عدم قيامها بالإجراءات الجذرية المطلوبة، سواء كان من جهة الانفكاك عن منظومة التبعية، أو ضرب مرتكزات الاستعمار الجديد في الداخل، أو تأمين آليات الرقابة الاجتماعية على جهاز الدولة « الحريات السياسية» فكان ذلك بداية انتكاس مفهوم الدولة الوطنية، والتحرر الوطني.
رابعاً: مع انهيار النموذج السوفييتي، كضامنٍ دولي يوفر إمكانية استكمال التحرر الوطني بأبعاده الاقتصادية– الاجتماعية، والديمقراطية، ومع تبلور شرائح اجتماعية لا مصلحة لها في الخروج من منظومة التبادل اللامتكافِئ، وصولاً إلى تبني السياسات الليبرالية رسمياً منذ ما يقارب العقدين من الزمن، التي حملت خطر التفريط بكل المنجز الوطني التاريخي الذي بدأ بمعركة ميسلون، والثورة السورية الكبرى، وتحقيق الجلاء عام 1946، وهو الخطر الذي أصبح ملموساً منذ تفجر الأزمة عام 2011، بعد أن باتت تهدد وجود الدولة السورية نفسها.
خامساً: إن المعنى الملموس للنضال الوطني برمته في اللحظة التاريخية الراهنة، يكمن في الحفاظ على وحدة الدولة السورية، واستعادة السيادة الوطنية، وهي مهمة لا يمكن إنجازها كما تثبت الوقائع، دون الذهاب إلى حلٍ سياسي حقيقي.
سادساً: إذا كان التوازن الدولي الذي تكون بعد الحرب العالمية الثانية، عاملاً أساسياً لتحقيق الجلاء، والوصول إلى الاستقلال الوطني، فإن التوازن الدولي الراهن يؤمن الظروف لاستعادة السيادة الوطنية، والحفاظ على وحدة الدولة السورية، بما يؤمن من إمكانية، لتنفيذ القرار الدولي 2254 كخريطة طريق للحل، وبكل ما يعنيه هذا القرار، من استئصال قوى الإرهاب نهائياً، وإيقاف الكارثة الإنسانية والتغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل.
سابعاً: من أهم الاستنتاجات التي تتعلق بتطور نموذج الدولة الوطنية، بما له وما عليه، هي: ترابط المهام الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية، حيث تبين بالملموس عدم إمكانية إنجاز أية مهمة من هذه المهام، دون أن تكون متكاملة مع الأخرى، فالوطن ليس مجرد جغرافيا وحدود، بل هو حدود وحقوق، هو كرامة الوطن والمواطن في آن معاً. إن رؤية كهذه، وكما نظن في الظرف التاريخي الراهن، هي استكمال لما قام به الرعيل الوطني السوري الأول، بدءاً من يوسف العظمة، والفعل النوعي الذي قام به، مروراً بسلطان باشا الأطرش، وحسن الخراط وابراهيم هنانو وصالح العلي ورمضان شلاش وسعيد آغا الدقوري، وطيب شربك ورفاقه من حامية البرلمان، ومعارك النضال ضد الأحلاف الاستعمارية، وضد العدو الصهيوني، التي شارك فيها الآلاف من السوريين، وتركوا لنا إرثاً وطنياً جامعاً يجب أن يبنى عليه، لإعادة إنتاج نسق المفاهيم الوطنية، لا لإلغاء القديم وتجاهله، بل لتعميقه وتجذيره حسب ضرورات اللحظة التاريخية الراهنة، وفي ذلك تحديداً يكمن الإخلاص والوفاء لقيم الجلاء العظيم، بما فيها تحرير كامل الأراضي السورية المحتلة، وطرد قوى الاحتلال الأجنبي.
موقع قاسيون الالكتروني