التراجع الأمريكي وملء الفراغ
بات التراجع الأمريكي التدريجي أمراً واضحاً وملموساً، خارج دائرة الجدل، والأهم أنه بات ثابتاً ومستمراً، واتجاهاً إجبارياً لا بديل عنه.
وكما هو معلوم، فإن هذا التراجع بالنسبة لدولة بوزن الولايات المتحدة التي استفردت بالهيمنة على القرار الدولي منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، يعني موضوعياً أن جملة الخيارات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية السائدة خلال مرحلة الاستفراد، ستحل محلها خيارات جديدة، فما يتراجع ليست دولة بذاتها، بل هو كل نموذج العلاقات الدولية السابق، وكل أدوات وبنى هيمنة المركز الغربي الرأسمالي، أي أن نظاماً دولياً جديداً بات موضوعياً على جدول الأعمال.
وإذا كانت المراكز الدولية الصاعدة، لديها من المقومات والأدوات والإمكانات، بأن يزداد وزنها ودورها وفاعليتها بشكل مباشر، فإن المسألة بالنسبة إلى البلدان الطرفية تعني أن الآفاق باتت مفتوحة أمام دولها وشعوبها لإبداع نموذجها الخاص الذي يلبي حاجات شعوبها في التنمية والسيادة على القرار، على أساس التكامل مع دول وشعوب العالم، والاعتراف المتبادل بالحقوق.
تشكل المرحلة الحالية، ورغم كل آلامها، فرصة تاريخية أمام دول الأطراف، بحث الخطى واللحاق بهذا التغير النوعي على المستوى الدولي، كل حسب خصوصياته وأولوياته، التي يفرضها الظرف الملموس، والخروج من ذلك المأزق التاريخي الذي وجدت نفسها فيه، بحكم النموذج الاقتصادي - الاجتماعي المتكيّف مع الليبرالية الجديدة التي وصلت إلى طريق مسدود في بلدانها الأم.
إن هذه الرؤية تفرض على القوى الحية في بلدان الأطراف، وبالأخص في البلدان التي تشهد توتراً، وأزمات مستفحلة، ومنها بلادنا، لعب دورها في ملء الفراغ الناشئ، وإيجاد موطئ قدم لها في الظرف الدولي الناشئ، ويشكل الحل السياسي العنوان الأبرز لأية خطوة جدية بهذا الاتجاه، دون الخضوع لاعتبارات اللحظة.
تعتبر سلسلة التراجعات الأمريكية في الملف السوري، وصولاً إلى التصريح الأخير للرئيس الأمريكي بـ«الانسحاب القريب» من سورية، وانحسار مساحات العمل المسلح، تعزيزاً وتأكيداً لتلك الحقيقة الثابتة في الوضع السوري، وهي: أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية، باعتبار أن استدامة الاشتباك، ومنع الحل السياسي هو بالعمق خيار أمريكي، بغض النظر عن دور القوى الأخرى، لاسيما، وأن ضرورات هذا الحل ما زالت قائمة، مثل التوتير ومحاولات العرقلة في الشمال السوري مؤخراً، و أن الكثير من مفردات وعناصر هذا الحل في متناول اليد، وبالدرجة الأساسية القرار 2254 كخريطة طريق للحل، والتحضيرات الجارية لتشكيل لجنة الاصلاح الدستوري.
إن التكيف سورياً مع المتغيرات الدولية، لا يقتصر على الاصطفاف مع القوى الدولية الصاعدة، بل يتطلب أيضاً من جميع القوى، العمل بالضرورات الموضوعية التي يفرضها الواقع السوري، ومنها التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل كحق مشروع للشعب السوري من جهة، وكتجلٍ ملموس للواقع الدولي الذي يتشكل، ومنطقه، ومحتواه العميق، ومساهمة السوريين بقسطهم في المتغيرات الدولية القادمة بلا شك.