عن الجَوْسسة والعالم المجنون .. وتحرير العقل!
بغض النظر عن مستوى الابتذال الذي تتسم به الحملة البريطانية ضد روسيا من الناحية السياسية والقانونية، إلا أنها لم تأتِ خارج سياق إصرار بعض النخب الغربية على شيطنة روسيا، وتقديمها كبعبعٍ للرأي العام العالمي والمحلي، ليبرر المركز الإمبريالي الغربي من خلال ذلك سياساته وسلوكه في العلاقات الدولية المستمدة، من مرحلة الهيمنة الغربية، وهي، أي «الحملة» ليست خارج سياق الوضع الدولي المتوتر أصلاً.. فمع كل نشرة أنباء، نسمع خبراً عن جبهة صراع جديدة، سواء عبر استيلاد جبهات مشتقة في صراع قائم، أو من خلال افتعال بؤر توتر وجبهات صراع لم تكن قائمة.
دائرة الصراعات تتسع في عالم اليوم: تراجع البورصات، إفلاس البنوك، وحرب العملات، ما يجري في سوق النفط أو سوق السلاح والذهب والمعادن الثمينة الأخرى، الهجرات الجماعية، الخلافات بين دول الاتحاد الأوربي، والخلافات بين الاتحاد والولايات المتحدة، تفشي العسكرة، الإرهاب، وتنامي التطرف.. الحروب في سورية أو اليمن أو العراق أو أفغانستان، وليبيا، ظاهرة حفلات القتل الجماعي المتكررة في المدارس والنوادي الأمريكية، إلى محاولات مصادرة بيت «ابن الله» في القدس، من طريق الحرير الجديد، إلى كولومبوس الجديد والإبادة الجديدة، وحرب الجوسسة منذ انتخاب ترامب، وانتهاءً بـ «سكريبال» الذي توشك الساعة أن تقوم لأجل دمه المقدس!..
على امتداد الكرة الأرضية يرغي الحقل الاجتماعي ويزبد، يتقيأ كل ما تراكم في القاع في مرحلة هيمنة الأخضر(الدولار) ويكشف حتى للأعمى والأصم، السم الذي كنا نتجرعه منذ أربعة عقود.. عن الغنى الكاذب، والوفرة الكاذبة، والاستقرار المخادع، والديمقراطية الكاذبة، والحرية المقلوبة على رأسها، والأمان المخاتل...
أما ما أتحفونا به، قبل ثلاثة عقود تحت مسمى عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبح في الواقع عصر حروب ونزاعات، أما محاربة الاستبداد والديكتاتورية، والإرهاب، فتمخضت وأنجبت، «ميني ديكتاتوريات» حيث خرجت كل العصبيات الدينية والقومية والمذهبية والقبلية، «صناعة أو أصالة» من المستنقع الرأسمالي، أما من انطلى عليه ذاك الدجل الإعلامي، فها هو صاحب الجلالة والحاكم الذي لا حاكم بعده «التاريخ» يسخر منه، يقهقه ملء شدقيه.. تباً للحسابات الخاطئة!
.. هذه الصراعات كلها، وإن كانت تتجلى في كل منطقة حسب ما هو ملموس وخاص، هي مفردات، وعناصر جزئية لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً ضمن شروطها المكانية الخاصة فقط، فكل واحدة منها، هي بمعنى ما، حلقة من حلقات الصراع الدولي، وصدىً للصراع الأساس، وتحديداً الصراع الجاري حول الهيمنة على القرار الدولي من عدمها، حول التحكم باتجاه الصراع، حول القبول بوجود قوى دولية لها رأي مختلف، فكل بؤر التوتر اليوم على علاقة تفاعل مباشرة، مع الحلقة الأساس تلك، وهذا التنافس الذي بات على أشده في الاقتصاد والسياسة، والثقافة، والعلوم، هي كلها ظواهر في هذا السياق، بدلالة أنه سرعان ما تتوتر الأوضاع في أية منطقة، أو في أي مجال، تجري عملية استقطاب دولية حادة حول الموقف منها، بدءاً من «أغنى» دولة في العالم، حيث لا تكف مطابع بنكها المركزي عن طباعة الأخضر على مدار الساعة، وانتهاء بأية دار للأيتام، أو خيمة على أطراف الصحراء.
ما الذي يحدث؟ هل استوطن الجن روح هذا العالم، وأصبح ممسوساً؟ ومن أين أتى كل هذا الموت المتنقل بين جهات الأرض الأربع، حتى بدا للكثير من الناس أنه لا مكان للعقل على كوكب من المفترض أن سكانه عقلاء، وأنه يتجه رويداً رويداً نحو الجنون... والانتحار؟
جوهر هذه الأزمات، ومحركها هو المأزق الذي يمر به المركز الإمبريالي الغربي، واستكلابه للحفاظ على مواقعه المهددة، وكل ما عدا ذلك تفاصيل، هي دلالات متكررة على إفلاس النموذج المهيمن على مدى عقود، وأوصل البشرية إلى هذا الحضيض، وأننا ندفع ثمن نزول الدولار عن العرش، هل هناك شك بعد الآن، بأن الرأسمالية المأزومة تنتج الحروب، وإن الحرب هي معادلها الموضوعي، وأن الحرب في هذا المستوى من التطور التكنولوجي هي الجنون، وأن من يريد البراء منه عليه أن يحرر العقل، وتحرير العقل يعني البحث عن حل خارج هذه المنظومة بأكملها؟؟