عن «مستقبل الأنظمة والدول العربية».. سورية نموذجاً!
عقد الحزب الشيوعي اللبناني ندوة فكرية حول «مستقبل الأنظمة السياسية العربية بعد حقبة الانتفاضات والحروب»، وكان لحزب الإرادة الشعبية ضمن الندوة مداخلة شفهية، قدمها الرفيق علاء عرفات، وأخرى مكتوبة قدمها الرفيق مهند دليقان، وفيما يلي ننشر قسماً من المداخلة المكتوبة على أن تنشر كاملة في موقع قاسيون الإلكتروني kassioun.org
المحور الأول: السياق الدولي_ الجانب الاقتصادي
إن الجانب الجوهري في مجمل الوضع الدولي، هو: الأزمة الرأسمالية العالمية، والتي لا يكشف انفجار طورها المالي أواخر 2007 بدايات 2008 سوى عن جانب واحد منها. ومن نافل القول: إن هذه الورقة لن تستطيع بحال من الأحوال أن تقف بشكل معمق على جوانب الأزمة المختلفة، ولكنها ستحاول في هذا المحور أن تضع بعض نقاط العلّام التي ستستند إليها في المحاور التالية:
1- انتهاء التوسع الأفقي:
السعي نحو الربح الأعلى، الذي كان حافز التطور الرأسمالي، وحافز تكثيف الإنتاج، على المستويات الوطنية، هو بالذات ما دفع نحو فوضى الإنتاج (الأزمة الدورية)، ودفع أيضاً (ضمن إطار التنافس) إلى تطوير التكنيك، وإلى نشوء الاحتكارات بمستوياتها المختلفة من السانديكا إلى الكتلة المالية، وأدى تطوير التكنيك، إلى تعقيد (التركيب العضوي لرأس المال)، الأمر الذي أنتج ميل معدل الربح نحو الانخفاض... أي: أنّ الدارة جرى إغلاقها على المستوى الوطني، فالسعي نحو الربح الأعلى أدى في نهاية المطاف إلى ميل معدل الربح نحو الانخفاض.
هذا الأمر، هو ما دفع رأس المال إلى كسر هذه الحلقة، عبر الخروج من الحدود الوطنية (تصدير البضائع بداية، ثم تصدير رأس المال الذي يتحول في المرحلة الإمبريالية إلى الشكل السائد والمحوري في عمليات التصدير)، والتوسع أفقياً عبر العالم؛ بكلام آخر: إنّ التوسع الدائم هو قانون من قوانين الرأسمالية، شأنه شأن قانون السعي نحو الربح الأعلى، ويعكس هذا القانون الطابع الفاني للظاهرة الرأسمالية، بوصفها ظاهرة غير قابلة للاستقرار ضمن حدود مغلقة، سواء كانت تلك الحدود باتساع (الحدود الوطنية) أم باتساع (حدود الكرة الأرضية)؛ وهو ما تم استكماله بانهيار الاتحاد السوفياتي، حيث بات ممكناً القول: إن العالم بأسره قد ترسمل، بمعنى سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية فيه.
2- التوسع القطاعي
أو التشوه الهيكلي:
للأسباب السابقة نفسها (السعي نحو الربح الأعلى، وميل معدل الربح نحو الانخفاض) وفي محاولة رأس المال التخلص نهائياً من الأزمة الدورية، فقد جرب حظه بالقفز من قطاع إلى آخر، على المستوى الوطني، ومن ثم على المستوى العالمي، وهو الأمر الذي عزز أدواراً محددة لقطاعات باتت المتحكم الأساسي بمجمل السوق الرأسمالية، وفي مقدمتها: القطاع المالي إلى جانب «القطاعات السوداء»، أي: الإتجار بالبشر والمخدرات والسلاح. وهذا بالذات ما حوَّل الأزمة الدورية إلى أزمة عضوية مستمرة، بتحويله فائض الإنتاج إلى فائض دولار وسلاح، رابطاً التجارة العالمية بأسرها بالدولار.
بكلام آخر، إنّ ما يسمى «تشوهاً هيكلياً» في مصطلحات الاقتصاد الكلي ليس في حقيقته «تشوهاً» بل هو قانون طبيعي للظاهرة الرأسمالية، يحكمها بالتشوه وبالمزيد من التشوه بشكل مستمر.
3- علاقة (إنتاج_ استهلاك)، (عدالة_ نمو):
التشوه الهيكلي المشار إليه، مصحوباً بقانون التمركز، وبانتهاء التوسع الأفقي، حوّل أزمة فائض الإنتاج، إلى أزمة إنتاج وأزمة نمو؛ أي: أن مجمل القوانين السابقة وضعت رأس المال، والمجتمع البشري معه، أمام وضع لم تعد فيه إمكانات إنتاج حقيقية من وجهة نظر الربح، فأرباح قطاعات الإنتاج الحقيقي، وعدا عن انخفاض معدلات ربحها لمصلحة القطاع المالي، فإنّ تحقيق رأس المال الإنتاجي، عبر الاستهلاك، بات مهدداً بسبب نمط توزيع الثروة الجائر بشكل كبير، على المستوى الوطني والدولي، بما في ذلك في دول المركز، أي: أنّ دورة (إنتاج_ توزيع/ تبادل – استهلاك)، باتت غير قابلة للتجديد في كثير من الأحوال، مفرزة معادلة جديدة تناقض صراحة كل أدبيات الليبرالية، ناهيك عن أدبيات الليبرالية الجديدة، وبالتحديد تناقض القول: (دع الأغنياء يغتنون فهم قاطرة النمو)، وبات الحديث عن ضرورة إعادة توزيع الثروة، حديث الأوساط الرأسمالية نفسها، لا حديث الشيوعيين فحسب، كضرورة لاستمرار الإنتاج وبالتالي استمرار الربح.
4- التبادل اللا متكافئ والدولار:
اكتمل نشوء منظومة الاستعمار الجديد_ الاقتصادي، أو منظومة التبادل اللا متكافئ (مقص الأسعار، التبعية التكنولوجية، هجرة العقول، التبادل اللا متكافئ)، أواسط ستينات القرن الماضي، مكرسة تقسيم العالم بين مركز ناهب، وأطراف منهوبة وتابعة، (وقد بان هذا التقسيم بأكثر أشكاله تكاملاً ووقاحة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومنظومة الدول الاشتراكية). وما يسقط من حسابات بعض منظري التبادل اللا متكافئ، هو: أن كلمة السر في هذه المنظومة ومحورها ليست إلا الدولار نفسه، ذلك أنّ آليات التبادل اللا متكافئ جميعها إنما تتركز في إطار (التجارة الدولية) وهذه الأخيرة، تستند إلى الدولار في المقام الأول، بحيث بات الدولار والتبادل اللا متكافئ (في إطار العلاقات الدولية) تعبيرين عن الشيء نفسه.
وإنّ ما جرى خلال العقد ونصف العقد الماضي، من ظهور لليورو وعودة لليوان والروبل، ومؤخراً بداية ضرب البترودولار باليوان القابل للتبديل ذهباً، ليس تعبيراً عن ضرب الدولار كـ»معادل عام» فحسب، بل وهو في الجوهر، ضرب لمنظومة التبادل اللا متكافئ بأسرها.
5- التوسع العمودي:
إنّ الشكل الأولي لتوسع رأس المال عمودياً، هو ما يسمى (تكثيف شدة العمل)، أي: عصر قوة عمل العامل لاستخلاص أكبر قيمة منتجة مجدداً منها خلال عدد ساعات العمل نفسها، يليها التوسع عمودياً عبر زيادة القيمة الزائدة النسبية، التي تعتمد على تعظيم التكنيك على المستوى العام بما يخفض من قيمة قوة العمل، ويرفع تالياً نسبة ما تنتجه من قيمة زائدة من إجمالي ساعات العمل اليومية. هذا الشكل البسيط للتوسع العمودي (والذي لعب دوراً تقدمياً في مرحلة محددة)، يعود مرة أخرى، وبشكل آخر، في ما يشبه نفي النفي، بعد انتهاء التوسع الأفقي: تظهر لرأس المال ضرورة إيقاف تطور القوى المنتجة التي تضغط بتطورها على علاقات الإنتاج، لحماية هذه الأخيرة وحماية أسلوب الإنتاج الرأسمالي تالياً، ويجري ذلك بوسائل متنوعة جداً... منها مثلاً: الوقوف في وجه التطور العلمي والتكنولوجي بوصفه جانباً من جوانب تطور القوى المنتجة، ومنها أيضاً: التدمير المباشر بالمعنى الحرفي للجانب البشري من القوى المنتجة، (الذي تعبر النيومالتوسية عنه بصراحتها الوقحة)، وذلك عبر الحروب، ونشر الآفات والأمراض، وإفقار الشعوب بالسياسيات الليبرالية لتخفيض وسطي العمر المطلق، وبالتالي تخفيض عدد السكان، وسياسات اشتراط العمل بتحديد النسل، وغيرها من الممارسات.
أي: أنّ عمق الأزمة يعيد تذكيرنا بقانون صراع المتناقضات ووحدتها، حيث الصراع هو الأساس والوحدة ليست سوى حالة عابرة ومتغيرة؛ فالتناقض بين قوى الإنتاج (كمضمون) وعلاقات الإنتاج (كشكل) يهدد الوحدة نفسها؛ أي: أسلوب الإنتاج الرأسمالي. وفي إطار دفاع رأس المال عن هذه الوحدة، لم يبق أمامه سوى محاولة كبح تطور المضمون للحفاظ على صلاحية الشكل، وهذا الأمر يفتح المجال لإعادة التفكير بجملة مسائل من بينها: وظيفة الحرب ووظيفة الفاشية في عالمنا المعاصر...
6- أطوار الأزمة:
تشبّه الأزمة الراهنة من حيث ضخامتها وعمقها، وانفجارها ضمن المركز الإمبريالي، بأزمة 1929. والأطوار التقليدية التي مرت بها أزمة 29 هي على التوالي: (المالي، الاقتصادي، الاجتماعي_ السياسي، الحرب ونشوء البدائل). لكنّ الأزمة الراهنة شهدت محاولة للتلاعب بتسلسلها؛ فقد عمدت الإمبريالية الأمريكية إلى استباق انفجار الأزمة بطورها المالي بالذهاب إلى نهاية الدوامة فوراً؛ بأن تبدأ بالحرب. وقد أوجدت مبرر الحرب بأحداث 11 سبتمبر، ليعقبها الانطلاق نحو «الحرب على الإرهاب». ما جرى واقعياً هو: أنّ الحرب لم تسر وفقاً للمأمول، ولم تحقق بالتالي منع انفجار الأزمة المالية.
وبانفجار الأزمة المالية أواخر 2007 بدايات 2008، بالتزامن مع استمرار الحرب، وقعت حالة تشبه حالة التجاوب الحاد أو الطنين في الأمواج، فالتقت موجتا الأزمة المالية والحربية بقيمة أعظمية، فلم يعد المال قادراً على تخديم العسكرة، ولم تعد العسكرة قادرة على أداء مهمتها بحماية المال ونسبة ربحه، لذا جرى تمديد الحرب، والعمل الدائم على محاولة توسيعها وتعميقها، بالتوازي مع استمرار الأزمة بسلوك مسارها القانوني، أي: أنها انتقلت للمستوى الاقتصادي (التقديرات أن ذلك جرى في 2012)، أي: بدأت بضرب عملية الإنتاج الحقيقي، وانتقلت منذ فترة غير بعيدة إلى مستوى أزمة اجتماعية_ سياسية... هي عشية البدائل، أي: عشية ظهور البديل الثوري.
إنّ الشكل الجديد لتسلسل أطوار الأزمة، والناتج عن محاولة منع ظهور الأزمة باستباقها بالحرب، وعدم نجاح هذه المحاولة، قد أدى فعلياً إلى حالة غير مسبوقة: أطوار الأزمة الثلاثة الأولى باتت مترافقة مع الحرب، وهذه باتت تتوسع من طور إلى التالي في محاولة مستميتة وفاشلة لاحتواء تسارع الأزمة (وهنا يكمن جانب من جوانب تفسير الظاهرة الفاشية بالمعنى العام، وبالمعنى الملموس للفاشية الجديدة وآليات عملها)، هذا الأمر، إن أضيف إليه عامل الردع النووي، وضعف احتمالات الحرب المباشرة، يفتح بالمعنى التاريخي إمكانية فريدة، هي إمكانية خنق الرأسمالية الناتج عن قصور رئوي مزمن (حيث الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها)؛ بكلام آخر: إنّ امتداد الحرب ضمن الأطوار الثلاثة الأولى، قد يفتح الباب نحو انتهائها على أبواب الطور الرابع، طور البدائل، بل ويجعل من جانب آخر، الوصول إلى الطور الرابع محكوماً بإنهاء الحرب... ما يطرح افتراضاً نظرياً يحتاج لإثبات، هو: أنّ الحرب الثورية بشكلها المعاصر، تتركز في الحرب على الحرب1، بما يتضمنه ذلك من حرب على الفاشية، ولكن أيضاً من نضال من أجل حل الأزمات المختلفة سلمياً وسياسياً.
المحور الثاني: السياق الدولي_ الجانب السياسي
لم يعد مستهجناً على المستوى السياسي، الحديثُ عن تراجع مجمل المعسكر الغربي، وضمناً وأساساً عن التراجع الأمريكي، كذلك الحديث عن الصعود الصيني_ الروسي. لكن النقاش ما يزال دائراً حول جملة مسائل من بينها: (أين وصل التوازن الدولي الجديد؟ _ هل سينتج عنه عالم متعدد الأقطاب؟ _ هل سينتج عنه مركز إمبريالي بديل؟ _ هل نحن عشية الثورة والتحول باتجاه الاشتراكية، وضمن أية مستويات، محلية_ إقليمية_ دولية؟ وما هي الآجال؟). ولا يمكن بحال من الأحوال تقديم إجابات وافية وكاملة حول هذه المسائل، ليس ضمن هذه الورقة فحسب، بل وعلى العموم، لأنها مسائل لا تزال قيد البحث النظري والتطور العملي. ومع ذلك، يمكن تقديم تصورات عامة حولها، وهو ما سنطرحه في الفقرات التالية...
1- الوضع الراهن للتوازن الدولي:
بات واضحاً وملموساً تراجع المنظومة الغربية على المستويات المختلفة؛ ففي الجانب المالي_ الاقتصادي، تتقدم عملات محلية وإقليمية، طاردةً الدولار شيئاً فشيئاً من إطارها الوطني، ومن إطار تجارتها البينية، إضافة إلى التراجع المتواتر في دور المؤسسات المالية المركزية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية). وفي الجانب السياسي، يبرز تراجع وتأزم مختلف المنظومات الغربية، العالمية والإقليمية والمحلية: (حلف الناتو، الاتحاد الأوروبي، الجامعة العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، مجلس التعاون الخليجي... وغيرها)، إضافة إلى التراجع المتسارع في ثقل الوزن الأمريكي في مختلف الأزمات الإقليمية (مثالاً: أوكرانيا، الأزمة السورية، الأزمة التركية، القضية الفلسطينية، اليمن... وغيرها). بمقابل ذلك، يظهر تقدم الدور الروسي الصيني على المستويات المختلفة؛ المالي والاقتصادي والسياسي، عبر المؤسسات والتجليات المختلفة لهذا الدور...
2- ضرب التبادل اللا متكافئ
إنّ تقدم الدور الروسي_ الصيني، يظهر على المستوى الاقتصادي_ المالي، بشكل مكثف في العمل المتواصل لضرب مختلف آليات التبادل اللا متكافئ، الواحدة تلو الأخرى... فهذان البلدان هما بالمعنى الاقتصادي جزء من بلدان العالم الثالث (أو بلدان الأطراف)، ضمن علاقة نهب (مركز_ أطراف)؛ أي: أنهما يخضعان للنهب الإمبريالي كحال بقية الأطراف، وإذا كان من منفسٍ بالنسبة لأزمة المركز (التي تعبر عن ذروة أزمة للمنظومة ككل، بما في ذلك روسيا والصين المأزومتان بالمعنى الرأسمالي) فهو بتعميق نهبه للأطراف، ومحاولة تصدير أزمته نحوها، ما يضع بلدان الأطراف بالمجمل، والبلدان الأكثر وزناً من بينها بشكل خاص، في وضع إجباري يضطرها لإعادة صياغة مجمل العلاقات الدولية، الاقتصادية، والسياسية بالتلازم، في إطار الدفاع عن نفسها، حتى قبل النقاش عن (وجود نوايا وإمكانات توسعية أو عدم وجودها). وعلى رأس العلاقات التي تجري إعادة صياغتها علاقات (التبادل اللا متكافئ_ دولار) أي: منظومة الاستعمار الجديد بشكلها المكتمل.
3- الحرب على الحرب، الحرب على الفاشية
بالتوازي مع عملية إعادة الصياغة الاقتصادية المشار إليها آنفاً، وبالتوازي أيضاً مع الاتجاه (الطبيعي) للمركز الإمبريالي نحو الحرب كتنفيس عن الأزمة، فإنّ الحرب تكتسب مزيداً من الضرورة بالنسبة للمركز الإمبريالي؛ فهي ليست تحريكاً لعجلة الإنتاج وتصريفاً للفائض، وإعادة تحاصص للعالم وإلى ما هنالك بالطريقة التقليدية، بل هي أبعد من ذلك: محاولة للحفاظ على منظومة الاستعمار الجديد، وعلى الدولار كمفتاح مركزي فيها، والأهم: تدمير لتطور القوى المنتجة على المستوى العالمي، ولاحتمالات نموها الكامنة... وهذا يتطلب إخماد أية مقاومة سياسية لبلدان، مثل: روسيا والصين، ويتطلب إخضاعهما نهائياً عبر تفتيتهما وإغراقهما بجملة من الحروب الداخلية والإقليمية، وباستخدام مختلف أشكال وأنواع الفوالق، وبتوظيف الفاشية الجديدة في إشعال فتائل هذه الفوالق وتغذيتها. ما يجعل سيناريو الدفاع الوحيد المجدي في وجه الإمبريالية الأمريكية (حتى من وجهة نظر رأسمالية صينية_ روسية) هو سيناريو الحرب على الحرب، بما يتضمنه من حرب على الفاشية_ الإرهاب، ودفع باتجاه الحلول السياسية لمختلف الأزمات السياسية الإقليمية والدولية.
4- عدالة_ نمو
إلى جانب ما أوردناه في المحور الأول عن هذا الجانب، فإنّ روسيا والصين، ومن بحكمهما، وفي إطار الدفاع عن النفس، مضطرتان إلى_ ولا طريق أمامهما سوى_ إعادة توزيع الثروة في المستوى الداخلي لتحقيق مسألتين: زيادة الاستهلاك الداخلي لتأمين دوران الإنتاج في ظل تراجع حاد في التجارة الدولية، وفي معدلات استهلاك القارتين الأكثر استهلاكاً على المستوى العالمي، أي: أوروبا وأميركا الشمالية تحت ضغط الأزمة (وهو ما يظهر واضحاً في توجه الصين نحو إحلال الواردات). والمسألة الثانية، هي: امتصاص واحتواء نقاط الضعف الداخلي التي يمكن البناء عليها في إطار عمليات الاستهداف بالتفتيت، وأهم نقاط الضعف، هي: النهب الذي يتعرض له الشعبان الصيني والروسي من برجوازيي البلدين، إضافة إلى نهب التبعية الذي يذهب للمركز.
5- تصور عن اتجاه تغير التوازن الدولي
إنّ جملة الأفكار السابقة، تقود إلى تصور عن اتجاه تغير التوازن الدولي؛ وهو: أنّ هذا التغير لن يكون انتقالاً من أحادية قطبية أمريكية نحو ثنائية قطبية (شرقية_ غربية) على شاكلة الحرب الباردة مثلاً، ولا نحو تعددية قطبية بمعنى وجود عدة مراكز إمبريالية (هذه المسألة أجبنا عنها في دراسة مستقلة بعنوان «روسيا الشبح الإمبريالي»)، بل هو عودة نحو الثنائية القطبية الفعلية (شعوب_ إمبريالية)، تمر مؤقتاً، وبشكل غير مستقر، عبر تناقضات ثنائية ذات طابع دولي، أو تكتلي دولي، وصولاً إلى ظهور الأشكال الملموسة لاشتراكية هذا القرن، وهو الأمر الذي لن يكون بعيداً في تقديرنا، وهو موضوع على طاولة البحث والتحقيق خلال 15 - 20 سنة القادمة.
6- انعكاس التوازن الدولي إقليمياً ومحلياً
إنّ الطور الذي نعيشه اليوم، ضمن عملية تغير ميزان القوى الدولي، يمكن توصيفه بأنه طور ثنائية قطبية مؤقتة كما أسلفنا. وهذا الشكل من الاستقطاب ينتج في أنحاء عديدة من العالم حالة تشبه انعدام الوزن؛ فرغم درجات التدويل العالية التي تظهر في مختلف الأزمات التي تعيشها دول وأقاليم عديدة، إلا أنّ هامش الحركة الداخلية، والفعل الذاتي لشعوب هذه الدول والأقاليم، يزداد بشكل مضطرد.
تعزز هذه الفكرة، جملة الخواص والسمات الأخرى للتغيّر الجاري؛ فعملية ضرب التبادل اللا متكافئ، تمر بالضرورة عبر إحلال شكل من أشكال التبادل المتكافئ، وبأسوأ الأحوال تبادل أقل نهباً ولا تكافؤاً. يضاف إلى ذلك أنّ «القطب الشرقي» إنْ جازت تسميته كذلك، مضطر في صراعه مع الغرب إلى نزع فتائل عدم الاستقرار من محيطه القريب والواسع، وهذه مسألة تتطلب تغييرات كبرى في ذلك المحيط اتجاهها الأساس، هو: الانفكاك التدريجي عن المنظومة الغربية سياسياً، بالتوازي مع فتح الباب للحلول الحقيقية للمشكلات المتراكمة في هذا المحيط، وعلى رأسها المشكلات الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية، ولا نعني بهذا القول أن من سيحل تلك المشكلات هما روسيا والصين وتحالفهما، بل إنّ هذا التحالف مضطر لتأمين الظروف الدولية لحل هذه المشكلات، وفتح الباب لشعوب هذا المحيط لحل مشكلاتها...
1وهذا الافتراض ليس جديداً بالكامل، فثورة أكتوبر نفسها رفعت شعار السلام كحرب على الحرب الإمبريالية...
المداخلة كاملة: هنا