تيلرسون يعود خالي الوفاض
أتت زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون مؤخراً إلى المنطقة العربية في سياق لملمة حلفاء واشنطن، لأجل الإسهام في تنفيذ أجندة واشنطن في المنطقة. الزيارة التي بدأت في مصر وانتهت في تركيا مروراً بالأردن والكويت ولبنان، توضح مرة أخرى: أن أزمة الولايات المتحدة في المنطقة لم تعد أزمة رسم سياسات فقط، بل أيضاً أزمة على مستوى تنفيذ هذه السياسات وتحديداً لجهة دور الحلفاء في تنفيذ هذه السياسات.
افتتح تيلرسون أولى جولاته في مصر داعماً بتصريحاته العلنية لحرب الحكومة المصرية على الإرهاب وفقط. تقول العديد من المصادر الإعلامية: أن تيلرسون اضطر، خلافاً لعادات المسؤولين الأمريكيين من زوار مصر، لعدم فتح سمفونية «حقوق الإنسان»، وعلى ذلك ترى هذه المصادر: أن هذا الخطاب الأمريكي الدافئ هو تنازل للقاهرة لأجل تذويب الجليد الذي تراكم خلال السنوات السبع الماضية. لكن على ما يبدو أن تذويب هذا الجليد يستدعي مواجهة العلاقات بين موسكو والقاهرة، والتي لاتزال قيد التصاعد، وإن ولو بهدوء، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية. بعد الزيارة بعدة أيام، أعلن رئيس شركة الطيران الروسية «بروجريس» أنه سيتم تزويد مصر بمروحيات «كا -52» البحرية وهي واحدة من أحدث المروحيات العالمية، والتي سيتم تزويد الجيش الروسي بجزء منها بالتوزاي مع تصدير بعض منها إلى مصر ودول أخرى. هذا مؤشر آخر على أن مهمة تيلرسون في مصر لم ولن تكون في متناول اليد ببساطة.
في الكويت شارك الوزير الأمريكي في مؤتمر لإعادة إعمار العراق. هناك حثّ الرجل الحلفاء لمزيد من «الكرم» في إعادة إعمار العراق التي قُدرت حاجاتها بـأكثر من 88 مليار دولار. لم تستطع هذه المساعي جمع أكثر من 30 مليار دولار رغم تواجد كبار هوامير المال على الطاولة: الولايات المتحدة، السعودية، قطر الإمارات، الاتحاد الأوربي، بريطانيا، ألمانيا إلخ إلخ. الولايات المتحدة ذاتها لم تقدم أكثر من 3 مليارات، وجاءت على شكل قروض هذه المرة. هذا مثال فاقع في وجه الذين ما يزالون يراهنون على دور الغرب في إعادة الإعمار. عطفاً على الزيارة ظلت الأزمة الخليجية بين حلفاء واشنطن دون إيجاد أي حل على ما يبدو! اكتفى تيلرسون بالتأكيد على أن حل الأزمة هو «مصلحة للجميع»، ووعد بمواصلة الجهود لإيجاد حل، وأثنى على دور الكويت في الأزمات الإنسانية ثم غادر!
لم تشمل الزيارة تل أبيب، إلا أن هذه الزيارة حملت مصالح الكيان الإسرائيلي وألقتها على الطاولة في كل من عمان وبيروت. في الأردن صعد الوزير الأمريكي الهجوم على إيران، كما تحدث عن عملية «السلام»، وفي الوقت ذاته أكد على قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إلا أنه تحدث بأن الاتفاق على الحدود النهائية لمدينة القدس ينبغي أن يقوم على اتفاق الطرفين!! ثم بشّر بخطة «سلام» جديدة يدأب ترامب على تطويرها وسترى النور بعد عدة أشهر.. يبدو أن الرجل لا يملك إلا جعبة خاوية سياسياً، وقليلاً من المساعدات منحها للأردن، تمهيداً للضغط على السلطة الفلسطينية للقبول بالأمر الواقع. الطلب ذاته كان قد حمله الوزير إلى لقاهرة للضغط على السلطة الفلسطينية، لمزيد من التفريط والتنازلات. مع ذلك تلوح في الأفق تحركات غير عادية من قبل الملك الأردني، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، للمناورة عبر طرق أبواب موسكو.
لبنان، شهد أعقد جولات تيلرسون وربما أحرجها في تاريخ الخارجية الأمريكية في المنطقة. رغم أن الرجل حاول تشذيب خطابه قبل الوصول إلى لبنان، بالاعتراف أن حزب الله جزء من العملية السياسية في لبنان، إلا أنه تبنى الأجندة «الإسرائيلية» كاملة فيما يخص ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، لأجل تمكين الكيان لمزيد من السيطرة على حقل النفط والغاز في البحر المتوسط. المضحك أن الرجل، وبعد أن واجه لقاءً رسمياً لبنانياً في غاية الحرج، عاد لاعتبار حزب الله تنظيماً «إرهابياً» بجناحيه السياسي والعسكري!. يبدو أن الرجل لم يعِ بعد جملته التي قالها حول دور حزب الله في العملية السياسية اللبنانية. لقد جلس مع الرئيس اللبناني ميشيل عون، والذي لم يكن ليغدو رئيساً للجمهورية لولا التوافق مع حزب الله، وجلس مع رئيس مجلس النواب اللبناني الحليف الأهم لحزب الله، ثم التقى بسعد الحريري رئيس الحكومة التي تشكلت حكومته بتوافق ودعم من حزب الله، ثم يأتي هذا الرجل ليقنع كل هؤلاء بسمفونية «خطورة الدور الإيراني المحمول على دور حزب الله»!! كم هو طموح هذا الريكس؟!!
أم المعارك كانت في أنقرة، حيث اللقاء مع «الحليف_ المتمرد». ما نطق به المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بعد لقاء أردوغان وتيلرسون، يشي بأن الأمور لم تنتهِ إلى حلول لأزمة كلا الطرفين. الأتراك طالبوا بفك الارتباط بين قوات سورية الديمقراطية ووحدات حماية الشعب. كيف لتيلرسون أن يحقق ذلك طالما أن الأمريكيين يمعنون بالتدخل لتقسيم المنطقة؟! وعليه جاءت تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بعد الزيارة أكثر من مبهمة، لا بل تشير إلى استمرار الأزمة، فجاء التأكيد على أن ما جرى بين أردوغان وتيلرسون هو «محادثة مثمرة ومفتوحة...بهدف إتاحة تقدّم، بشكل يصب في مصلحة البلدين” ، ما يعني عدم التوصل لتوافقات جدية.
بدت الزيارة وكأنها استجداء لكل الحلفاء للعودة للحضن الدافئ. ربما الكثير من هؤلاء الحلفاء كان يعول على هذه الزيارة، وبعضهم سيبقى معولاً على زيارات أخرى أيضاً، ولكن ومما لا شك فيه، أن حلفاء واشنطن باتوا أكثر إدراكاً من ذي قبل، حول أزمة راعيهم الأكبر وإمكاناته، ناهيك عن زيادة التناقض بين مصالحهم وإياه، فأنّى لواشنطن القدرة على تنفيذ استراتيجية في منطقة باتت أدواتهم فيها عوراء وعرجاء وكسيحة!