في تفسير التصعيد الراهن، ومآلاته؟
يشهد الوضع الميداني في سورية وما حولها، تطوراً دراماتيكياً منذ شهر، من جهة توسع رقعة العمليات العسكرية، وتداخل العوامل الداخلية والخارجية من جديد، فكان العدوان التركي على الشمال السوري، وإسقاط الطائرة الروسية، وتواتر وتوسع العمليات الحربية في الغوطة وإدلب، وكان القصف الأمريكي على مواقع عسكرية سورية في دير الزور، وكان العدوان الصهيوني على مواقع الجيش السوري.
المشهد النقيض
هذا المشهد يبدو على النقيض إلى حدٍ كبيرٍ، من المشهد السياسي والدبلوماسي على المسرح السوري، وباستعراض سريع لهذا الجانب وتزامناً مع فترة تصاعد العمليات العسكرية نجد: زيارة وفد هيئة التفاوض إلى موسكو لأول مرة، والإشارات الإيجابية غير المتوقعة تجاه الموقف الروسي، التي ظهرت في التصريحات العديدة من هذه الهيئة، بكل ما يعنيه ذلك. بالإضافة إلى انعقاد مؤتمر سوتشي ومخرجاته، رغم «الحرب العالمية» التي أعلنت ضده، واضطرار الجميع إلى التعاطي الإيجابي مع مخرجاته، بما فيها هيئة التفاوض التي لم تحضر رسمياً، ولكنها سارعت إلى الاجتماع بالمبعوث الدولي لبحث موضوع اللجنة الدستورية، بالإضافة إلى الإشارات الإيجابية من قبل العديد من الدول الغربية، والإقليمية، تجاه سوتشي.
تفسيرات بائسة!
هذه المفارقة، وهذا التناقض بين العسكري الميداني، وبين السياسي الدبلوماسي، يكشف عن حقيقة أساسية، لا يمكن تفسير التصعيد العسكري الأخير خارج سياقها، وهي: أن هذا التصعيد، هو بالمحصلة رد من قوى الحرب على الإمكانية الجدية التي باتت متوفرة لتحويل القرار 2254 إلى واقع ملموس، أي، هي: محاولة لمنع تقدم العملية السياسية، أو أن هذا التصعيد محاولة لتثبيت دورها في سياق العملية نفسها، بعد أن تم تقليم أظافرها تباعاً.
انطلق البعض في تقدير اللحظة الراهنة، مما هو ظاهر على السطح، وآني وعابر، ليسارع إلى نعي العملية السياسية، دون أن يلاحظ أن أهم سمات التصعيد الأخير، هي: أن المشغل الأساسي «الأمريكي_ التركي_ الإسرائيلي» اضطروا إلى الدخول المباشر إلى ميدان الصراع، بعد تساقط أدواتهم الواحدة تلو الأخرى، خلال الأشهر السابقة، من انهيار داعش، إلى الضربات المتلاحقة والموجعة ضد جبهة النصرة، إلى حالة التفسخ والصراعات والاتهامات المتبادلة، والتي خرجت إلى العلن بين الرؤوس الحامية في الجماعات المسلحة، إلى التحركات الشعبية في مواقع عديدة من مواقع سيطرة هذه الجماعات، والدعوة إلى البحث عن مخارج وحلول.
إن المعنى الوحيد لقيام المشغل الأساسي بأداء مهمة التصعيد، هو: أن أدواته السابقة باتت متهالكة ومهترئة وعاجزة، وأن نفوذه يتراجع، وأن مشروعه باستدامة الاشتباك والفوضى بات مهدداً، وأنه يحاول قطع الطريق على الحل السياسي، الذي يشق طريقه بثبات، وإن كان بصعوبة، وأن حوامل الحل باتت في مكان متقدم، بحيث لم يعد بالإمكان منعها من الانتصار.
ماذا عن استنزاف روسيا
من بنك أهداف التصعيد الأخير، تأتي محاولة استنزاف الطرف الروسي، وإنهاكه في الرمال السورية المتحركة، بعد أن استطاع الإمساك بزمام المبادرة، وبات اللاعب الأساس في المشهد السوري.. فهل يمكن تحقيق ذلك؟
المعركة في سورية، في جانب منها تحولت إلى معركة دولية، هي معركة إنهاء الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي، وتشكل التجربة السورية تجربة ملموسة في هذا السياق، ولكي تكون الإجابة دقيقة على قدرة الولايات المتحدة في إنهاك الطرف الروسي في الميدان السوري، يجب الانطلاق من المشهد العالمي الراهن برمته، وليس الانطلاق من العربدة الأمريكية وعربدة توابعها في السماء، وعلى الارض السورية فقط، وبتأمل أوَّلي في المشهد العالمي، نجد أن الولايات المتحدة وتحديداً قوى الحرب فيها تتلقى الصفعة تلو الأخرى، بدءأً من «أم المعارك» معركة العملات والبحث عن عملة بديلة، وبدء عملية طرد الدولار من أسواق واسعة، ومروراً بالتناقضات المتفشية بين واشنطن وحلفائها في الشرق والغرب، والخلافات المتفاقمة ضمن الإدارة الأمريكية، وتقارب الكوريتين رغم كل محاولات واشنطن بتفجير الوضع، وتعمّق التنسيق الروسي الصيني، وانتهاءً بالانهيار الأخير في البورصات، كلها مؤشرات على العجز الأمريكي المستمر، وفي مختلف الساحات
فزاعة الحرب الشاملة
دون أن ننفي همجية قوى الحرب، واستعدادها لارتكاب الحماقات، وخيارات شمشون، خصوصاً عندما تجد نفسها في مآزق ذات طابع وجودي، إلا أن واقع الحال يقول: إن حلف الحرب عاجز عن خوض حرب شاملة كما يشاع، وجل ما يحاول فعله هو: محاولة التحكم بعملية التراجع، عبر خلط الأوراق وتغيير الأولويات، مستخدماً فرط القوى العسكرية التي يمتلكها.
مع وصول التصعيد إلى ذروته أي: بعد العدوان الصهيوني مباشرة، سارع «محللون استراتيجيون» من مختلف أطراف الصراع، إلى الحديث عن حرب شاملة تلوح في الأفق، وإلى مقولة « الحسم للميدان» وكأن هؤلاء كانوا بانتظار «نازلة من السماء» حتى يقرأوا الفاتحة على روح العملية السياسية، مع العلم أن المعطيات والتصريحات الرسمية كلها، والحراك الدبلوماسي والسياسي الدولي والإقليمي، يقول عكس ذلك، وأن خيار الحل السياسي هو المعادل الموضوعي لتوازن القوى الدولي الجديد، وأن هذا الخيار محسوم وقدر لا راد له، بغض النظر عن كل المحاولات الساعية إلى عرقلته أو التحكم به.