القضية الكردية والاستفتاء على الاستقلال
نُقِرُّ سلفاً أن الخوض في موضوع الاستفتاء على استقلال كردستان ينطوي على مغامرة، لما فيه من مفارقات وتناقضات، فمن جهة، هو تعبير عن حق مشروع من وجهة النظر القانونية المجردة، حيث يتعلق بتقرير مصير الشعب الكردي في العراق، وهو شعب أصيل من شعوب المنطقة، وله خصائصه القومية المستقلة، وتنطبق عليه مبادىء القانون الدولي كلها، وتجربة الشعوب الأخرى في سياق التطور التاريخي، ومن حيث المبدأ ليس من حق أحد إنكار حقه في تقرير مصيره، ومن جهة أخرى، إن حق تقرير المصير هنا يتعلق بمصير دول، وكيانات، وله تأثيره المباشر على الوضع الإقليمي والدولي، ويمكن أن يشكل بؤرة توتر جديدة، تؤثر سلباً على شعوب المنطقة كلها بما فيها الشعب الكردي، وبالتالي من الطبيعي أن يكون مجال خلاف.
رمزي السالم
إنّ غض النظر عن أي جانب من هذين الجانبين، هو بداية الوقوع في الخطأ عند التعاطي مع هذه القضية، وعليه: ليس من حق القوميين الكرد رجم وشيطنة كل من يناقش الموضوع من جوانبه المختلفة، رغم أن بعض من يرفض مستعد أن يمارس الابادة بحق الكرد، و بالمقابل ليس من حق القوميين العرب والترك والايرانيين، النظر إلى القضية على أنها مجرد عملية تقسيم «لدولهم»، وبالتالي يجب إعلان الاستنفار ضدها، رغم أن بعض القوميين الكرد غارقون في نزعة الانعزال القومي، ولا يرى أبعد من أنفه، ومستعد أن يعمل أي شيء تحت راية الحق القومي، ولتذهب الدنيا إلى الجحيم!
التجاذب القومي
سنحاول هنا مقاربة الموضوع خارج دائرة التجاذب القومي، منطلقين من فكرة أساسية، نظن أنها من الخصائص الجيوسياسية لبلدان وشعوب المنطقة، وهي موضوعة وحدة المصير، حيث فرض التطور التاريخي، والجغرافيا السياسية على شعوب هذه المنطقة المصير المشترك، فلا يوجد في تاريخ هذه المنطقة ما يدل أن شعباً من شعوبها شهد استقراراً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتطوراً طبيعياً، في الوقت الذي كان شعباً آخر يُضطهد، والتجربة العراقية نفسها شاهد حي في هذا المجال، فلم يشهد العراق استقراراً حقيقياً في تاريخه، وإذا كانت الأسباب عديدة، فإن أحد الأسباب الأساسية لذلك هو عدم حل القضية الكردية في العراق حلاً ديمقراطياً عادلاً، وليس صدفة أن فترات الاستقرار النسبي في الدولة العراقية، كانت تتزامن مع اقتراب حل هذه القضية، وبمعنى أوضح،: إن عدم حل القضية الكردية في العراق لم يؤثر سلباً على الشعب الكردي فحسب، بل اثر على الشعب العراقي بعربه وأكراده وأقلياته القومية الأخرى، ولا نبالغ بالقول: إن مصير العراق الحالي يتعلق في أحد جوانبه بعدم حل القضية الكردية...
في موانع التقسيم
إن القضية الكردية ليس قضية احتلال بالمعنى الكلاسيكي المتعارف عليه بل هي نتاج تقسيمات دولية لا علاقة لشعوب المنطقة بها، من حيث المبدأ، وبالتالي لا توجد حالة عداء، وعلى العكس من ذلك فإن العيش المشترك والمصالح المشتركة، هي التي تطبع علاقة شعوب المنطقة ببعضها، أما ما يشير إلى عكس ذلك، فهو تاريخ النخب، والقوى الحاكمة، وليس تاريخ الشعوب العربية والايرانية، والتركية، والكردية.
أولاً: من وجهة نظر المصالح الكردية.
الإقليم الكردي في العراق، محاط بعدة دول وانفصاله عن العراق يضع على بساط البحث موضوعياً، انفصال الأقسام الأخرى، وبمعنى آخر، فإن رداً فعلياً سلبياً من القوى الإقليمية تجاه انفصال كردستان عن العراق هو الأرجح، وهذا ما يعني واقعياً، أن إعلان الدولة الوليدة سيتزامن مع حالة حصار من الجوار، إن لم يكن أكثر من ذلك، اللهم إذا كان البعض يظن بتركيا خيراً، وهي التي ترفض الاعتراف بالقضية الكردية عندها، التي تشكل قضية عشرين مليوناً، رغم أن القوى الكردية هناك لا ترفع شعار الانفصال.
سياسات التوريط
يعاني البيت الداخلي الكردي، من تجاذبات وانقسامات حادة، وولاءات إقليمية ودولية متعددة، وهو ما يعني حكماً: وجود أذرع دولية وإقليمية نافذة في الكيان قيد التشكل.
يتزامن إعلان الاستفتاء، مع وضع إقليمي ودولي مضطرب، تتغير فيه التحالفات بتسارع غير مألوف، وفي ظل توازن دولي جديد، استراتيجية القوى الصاعدة فيه الحفاظ على سيادة ووحدة الدول، وعدم العبث بالخرائط، مع التأكيد على حل القضايا العالقة عن طريق الحوار، مختصر الكلام: أنه لا الشرط الدولي متوفر، ولا الاقليمي مهيّأ، ولا الكردي جاهز، للإقدام على هذه الخطوة، وبالتالي فإنها يمكن، لا بل بالتأكيد سترتد سلباً على القضية الكردية، ولمن يريد التوضيح أكثر، بأن الدول لا تعلن من خلال الرغبات والعواطف والمشاعر مهما كانت نبيلة ومشروعة، وأن سياسات التوريط والدفع إلى المآزق لا تعني بأن الدعم الدولي مؤمن حتى النهاية، وأن من لا يستطيع التفاهم مع أخوته في القومية والدين واللغة والثقافة، ومع من كان معه على مدى سنوات في الكهوف والجبال، لا يستطيع إنجاز مثل هذه المهمة، بغض النظر عن نواياه.
توجهات الاندماج
ثانياً: من وجهة نظر مصالح دول وشعوب المنطقة.
يتجه عالم اليوم موضوعياً، إلى التكامل، والتكتلات والاندماج، خارج إرادة نوايا ورغبات القوى والنخب السياسية، بحكم أن الدول الصغيرة، والكيانات الناشئة لم يعد لها مكان في عالم اليوم، وهي عاجزة عن تحقيق أية مهمة تنموية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومن هنا: إن هذا الفضاء الجغرافي السياسي، الذي يمتلك الكثير من المشتركات، محكوم عليه بالتكامل، حتى يستطيع ان يلبي لشعوبه متطلبات التطور الحضاري في هذه المرحلة من تطور المجتمع البشري، وإذا كان هناك من يظن، بأنه يمكن أن يعيد تجربة الدول التابعة كما هي حال أغلب الدول والكيانات التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، فإن هذا النموذج أثبت بالملموس بأنه بات عاجزاً عن البقاء والديمومة، فلا توجد دولة من دوله اليوم في حالة استقرار، والمشكلة أن فتح الباب على سيناريو التفتيت والتقسيم، وإن كان سيحل هذه القضية أو تلك شكلاً، قياساً إلى المرحلة التاريخية السابقة، فإنه فتح الباب على متوالية أزمات، لا يعلم غير رب العباد أين ومتى ستنتهي، وتقطع الطريق على التطور الحر لأي شعب من الشعوب، وإذا انطلقنا من مشكلة ما يسمى المناطق المتنازع عليها فقط، فإنها لوحدها يمكن أن تؤرّض أية عملية تطور تاريخي حقيقية، ولا ينفعن أحداً هنا اللجوء إلى المستشرقين، وأرشيفات وزارات الخارجية في الدول التي احتلت المنطقة حتى يثبت حقه التاريخي، ويسقط حق الآخرين، فلدى شهود الزور هؤلاء ما يكفي لإثبات الشيء وضده في آن واحد، لإثبات حق الكرد فيها مرة، وحق العرب مرة، وحق التركمان مرة، وحق الآشوريين مرة أخرى.
إن المرحلة التاريخية الراهنة، وميزان القوى الدولي الجديد، وضرورات الواقع الموضوعي، تؤمّن فرصة تاريخية لحل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً، تنتهي من خلاله سياسات إنكار الوجود كلها، والاضطهاد القومي، والحفاظ على وحدة الدول في الوقت ذاته، أيّ: تحقيق مصالح الجميع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 814