صراع فكري متجدد.. التحريف يلتقي مع العدو الصريح؟!
إن اشتداد تناقضات نظام الإمبريالية العالمي واحتدام الصراع الاجتماعي ينعكسان اشتعالا لجبهة الفكر، فلا بقاء لنظام لا يملك مبرر وجوده. تناقضات تضع تجاوز الرأسمالية على جدول أعمال التاريخ وعلى جدول أعمال المجتمعات وشعوب العالم المتضررة.
معركة متجددة مع الجديد التاريخي
الاشتراكية هي نقيض الرأسمالية، ولنظريتها العلمية (الماركسية) موقع أساس في المعركة الفكرية، ولكن بإحداثيات جديدة، وإن كانت بالمضمون ذاته نحو الاشتراكية، بتلاؤم مع التحولات ما بين محطات انفجار أزمة الرأسمالية.
واستعارة لموقف إنجلز من المسألة في القرن التاسع عشر، إن الماركسية بعد انتصارها الفكري والسياسي ضد النظريات المعادية (البورجوازية والبوجوازية الصغيرة ومن ضمنها الاشتراكية غير العلمية)، دخلت طوراً جديداً من المواجهة الفكرية مع تيار التحريف من «الماركسيين»، فحسب المفكر السوفياتي كوزنيتسوف في كتابه بصدد مؤلف انجلز «لودفينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية» إنه «بعد انتصار الماركسية في اشتباك سافر ضد الأعداء...لم يعنِ البتة توقف الصراع بين الفريقين توقفا تاماً. بل ان ممثلي مختلف ضروب الاشتراكية اللاعلمية قد واصلوا الصراع، ولكن لا من موقع نظرياتهم، بل في ميدان الماركسية العام، كمحرفين...ساعين إلى تفريغ الماركسية من جوهرها الثوري...»
المواجهة تستكمل اليوم مع تيار التحريف ذاته. وأهم ملامحها الجديدة
بتعميم الإحداثيات المواجهات الفكرية، إن العقدة المركزية في هذا الصراع هي: توصيف المرحلة الراهنة من النظام العالمي، ومآلاتها، ومواقع القوى والأطراف المختلفة، وإذا كانت نظرية الإمبريالية هي العمود الفقري لهذه المواجهة والتحريفات التي تطالها، فإن ملامح أخرى - ليست بجديدة للمواجهة الفكرية- تتكثف ليخاض بخلاصاتها تشويه الجديد الذي يولد.
من الملامح الأخرى إلى جانب توصيف روسيا والصين كـ «إمبرياليات جديدة» من قبل التيار التحريفي والمبررات «النظرية» الهزلية، إن هذا التوصيف يقف جنبا إلى جنب مع موقف أعداء الاشتراكية الصريحين بأغلبهم، من باب الاشتراكية، كمحاولة استباقية لمواجهة أي طرح قادم للاشتراكية من جديد في سياق الصراع السياسي الفكري، وقد يكون أصحاب الموقفين أحياناً هم أنفسهم.
التلاقي والربط الضمني ما بين التيار التحريفي، وتيار العداء الصريح للاشتراكية يرتكز على جملة من الأدوات التي يخوض فيها التحريفيون الحملة دعماً لموقفهم بـ «امبريالية روسيا والصين»، وهو الاتهام القائل: بإن رفض إمبريالية روسيا أو الصين هو الخضوع لوهم اشتراكية هذه الدول الحالي، أو تحولها (عائدة!).
التلاقي الضمني ما بين تيار التحريف وتيار العداء للاشتراكية
«لا نريد روسيا أو الصين حتى وإن كانتا اشتراكيتين»
الاتهام بالخضوع لوهم «اشتراكية» هذه الدول، وبغض النظر عن نقاشه بذاته، فإنه يتلاقى ضمنياً مع الهجوم الآخر، للمعادين الصريحين عامةً للاشتراكية، من تيارات الاشتراكية الديمقراطية والليبرالية ومختلف التيارات التي تحاول، عبثاً، استعادة رونقها التاريخي.
فهذه الاشارة إلى عدم اشتراكية هاتين الدولتين يحمل في آن واحد موقفاً ضمنياً من الاشتراكية التي «يتمنى» هؤلاء وجودها، فهم بالذات من يعادي الاشتراكية التاريخية في معالجتهم للتجربة السوفياتية بالذات، وهو ما ينسحب إلى لينين، وخطوة بخطوة ليصل إلى ماركس والماركسية ككل، فيتلاقون مع الخط الثاني التشويهي المعادي للاشتراكية بشكل عام. هذا التشويه الذي لم يغب بحقها وبحق تجارب الأحزاب الشيوعية في التاريخ طوال القرن الماضي في حضور هذه التجارب، وبعد غياب أغلبها.
ومن متابعة الزخم الصحفي والثقافي والفكري عالمياً اليوم، فإن حالة من «الابتهاج» تعم مختلف المنصات الإعلامية والصحفية والمنشورات حول الذكرى المئوية لثورة أوكتوبر البلشفية في روسيا (1917). الكمّ الكبير بأغلبه من المنشورات، حول المناسبة، تكرر حيلة الفكر المعادي التاريخية نفسها، أي عندما لا يمكن لهذا الفكر تجاهل الواقع، فهو يعترف به ليحرّفه ويعمل على تشويهه. في تكرار للأقاويل ذاتها كأن «الاشتراكية لم تحقق طموحات شعوبها بل كانت مضادةً لها»، و«سقطت لقصور ذاتي أولي متضمن فيها»، و«سقوط الاشتراكية السوفياتية لا يعني زوال الشيوعية، بل زوال الماركسية «الأكاديمية»! واتهامها بالقمع والارهاب والتجويع و«الستالينية»! وكل الاتهامات الليبرالية، في محاولة لتدمير إرث التجربة الاشتراكية ومنجزاتها التاريخية أولاً، والتعمية عليها إنْ عجزت عن التدمير.
هذا الهجوم على التاريخ حاصل في خطّيه، الأول: القائل بإمبريالية روسيا والصين، بناءً على أنهما ليستا اشتراكيتين، والذي «يحتقر» روسيا نفسها حين كانت اشتراكيةً، والثاني: الرافض لهاتين الدولتين بالذات بسبب موقعهما المتعارض مع الإمبريالية (الذي هو مؤيدها كإمبرياليته وهو مأجورها)، والإرث الذي تحمله الدولتان، والخوف من اشتراكية ممكنة- إذا صح التعبير.
وإضافةً إلى محاولته ضرب تحليل السياق التاريخي والواقع، فهو يحضّر للمواجهة القادمة، للطرح الاشتراكي، ويعزز الموقف الليبرالي لدى خندق قوى التغيير الثوري نفسها.
وهكذا، وبتبادل أدوار، يتلاقى التيار التحريفي «الماركسي» مع تيار العداء للاشتراكية، فهم لا يريدون روسيا لا اشتراكيةً ولا مضادةً للإمبريالية، أو كما يقولون هم «امبريالية».
إفقاد المشروع البديل أرضيته التاريخية وضرب منطلقه الفكري السياسي
التيار العدمي والليبرالي يلتقيان، عبر استفزاز الحاضر الليبرالي في الثقافة الاجتماعية السائدة اليوم، وإلى الانتقال من المعاداة للتجربة السوفياتية حسب زعم التيار التحريفي، إلى معاداة النظرية الاشتراكية العلمية ككل، وهذا القفز في «الفراغ النظري» محدِّد ضروري لتمييع الاستمرارية التاريخية للواقع أولاً، وللفكر الماركسي والمشروع الاشتراكي، وتفريغه من جوهره بشكل جديد.
إن تعرية هذا الموقف ضرورية ليس تأكيداً على «الاتهام» باشتراكية روسيا حالياً كما يحاول أصحاب موقف التحريف القول، بل من موقع تثبيت المنطلقات الفكرية والسياسية لقوى المشروع البديل الماركسية والاشتراكية العلمية، ليس في مفهومها الواسع فقط، بل في ملموسيتها التاريخية، وبالتالي رسم معالم المشروع البديل الشامل وكل ميادين الحياة المادية والمعنوية، والبحث الملموس في التجربة الاشتراكية والدروس المستقاة منها، ووضع الحلول العملية للمهام المطروحة أمام شعوب العالم والمنطقة نحو التحقق الشامل المادي والمعنوي، والتحرر والتقدم.
هذه المواجهة مع تيار التحريف كما مع التيار المعادي للاشتراكية تتطلب بلورة مشروع ملموس، يكشف زيف الطروحات الليبرالية التي غذتها الثقافة والعلاقات الليبرالية طوال العقود الماضية، بشكل خاص، ويقدم الإجابات عن الأوهام الاجتماعية الليبرالية التي تحطمت واقعياً، مهمة تلتقي مع المعركة السياسية ويكون رافعتها حشد القوى الاجتماعية الحية والطاقات الطليعية، في سياق الصعوبات العملية وامتداد الزمن الصراعي.
الواقع الموضوعي المعقد في وحدته المنفجرة يصهر المعارك الفكرية المختلفة
إن ما يجري هو تكثيف لعدة معارك فكرية في آن واحد، وفي بؤرة واحدة، وكأن كل الجبهات الفكرية تتوحد في التوحد الملموس لتناقضاتها موضوعياً. توحداً «أفقياً» لأزمة الإمبريالية على المستوى العالمي (الدولي والمحلي معاً)، وتوحد «عمودياً» في حل لتناقضات النظام الرأسمالي وتجاوزه التاريخي.
وحسب ماركس «ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت حقيقة تفكيره، أي فعاليته وقوته وووجوده في هذا العالم»، والوقائع الأنصع ستبقى تعاند التحريف وتدعم عالماً يولد، بنفي العالم المنهار وارثاً تَرِكَتِه في آن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 801