آستانا.. والمنطقة الآمنة الأمريكية.. ونصيحة لافروف
تعددت أشكال التشكيك والتشويه التي طالت اجتماع أسْتانا، قبله، وأثناءه وبعده، كالعادة مع كل نشاط يخدم عملية الحل السياسي للأزمة السورية، حيث يقف طابور المشككين مِن كلّ شاكلةٍ ولون، لينزلوا نهشاً بالحل، وأدواته، وأطره المتعددة.
أول اشكال التشكيك تلك: التي جاءت قبل انعقاده، واشترطت جدول أعماله، وحاولت أن تحمِّل اللقاء ما هو ليس وظيفته أصلاً، ليكون دليل الفشل جاهزاً، مهما حدث من تقدم! وثانيها: حاولت وأده في المهد عبر استحضار معجم من مفردات الخلاف والصراع، وعبر خطاب إعلامي أشبه بالمارش العسكري، يصر على استفزاز الطرف الآخر، أملاً في ردّ فعل ينسف الاجتماع، وثالثهما: محاولة تمسيخ الاجتماع، وتحويله إلى سجل لتسجيل النقاط، أو مسرح للاستعراض، ولعل آخر محاولات التشويه، و ربما أكثرها ذكاء، هي: تلك التي حاولت أن تصنّع تعارضاً، بين اللقاء، وبين مسار جنيف بتطوره منذ جنيف 1 وحتى القرار 2254، ورأت في اللقاء بمقرراته نعياً لجنيف، تحت حجة ان البيان الختامي لم يأت على ذكر جنيف1، والتي يقف وراء ذلك، هي: روسيا طبعاً، التي «استغلت غياب أمريكا...» وصولاً إلى الزعم بوجود مرجعية جديدة، بدلاً عن جنيف 1 !!؟
أصحاب هذا الرأي نفسهم، ملأؤوا الفضاء الإعلامي ضجيجاً عن خلاف روسي – إيراني على إثر دعوة الطرف الأمريكي إلى المفاوضات، عبر إبراز عدم رغبة ايران في دعوة ممثل الولايات المتحدة الأمريكية، ورغبة الجانب الروسي بحضور الطرف الأمريكي، لا بل بات البعض، يحاول الاستناد إلى هذا التباين في الموقفين، للبناء عليه، ووضع الاستراتيجيات على أساسه.
يمكن القول: ان مجمل التشويش الذي يرافق أي نشاط سياسي حول الأزمة السورية، يمر من بوابة محاولة النيل من الدور الروسي، الذي يصبح أحياناً في مرمى نيران الأطراف كلها، فروسيا هي «دولة محتلة» وروسيا عقدت صفقات مع واشنطن، وروسيا يجب أن تحارب الإرهاب بالطريقة التي يريدها النظام، وروسيا يجب ان تختلف مع إيران والنظام بالطريقة والمستوى التي تريدها المعارضة، وروسيا هي الكافرة، أو الأرذوكسية، التي تحارب «اهل السنة» والمسلمين، وروسيا هي أيضاً: التي تحاول إلغاء مبدأ علمانية الدولة السورية، لأن هذا المبدأ أسقط من البيان الختامي لاجتماع آستانا!؟
أما لماذا روسيا؟ فلأنها ببساطة تعمل للحل السياسي، الذي يستوجب القبول بالتوافقات، والتوافقات تستوجب التنازلات من أطراف الصراع كلها، وهذا ما يجعل روسيا، تتفق وتختلف مع كل الأطراف، كما يتطلبه دور الراعي الحيادي النزيه، وعلى عكس ما فعله، ويفعله الاخرون.
مع روسيا أم مع سورية؟
لأن استهداف الموقف الروسي، هو استهداف للحل السياسي، الذي لا يمكن الحفاظ على سورية، التي نعرفها بدونه، لذا، فإن الدفاع عن الدور الروسي، يعبِّر في ظروف اليوم عن مصلحةٍ وطنيةٍ سوريةٍ ليس بالمعنى العام التقليدي فقط، بل بالمعنى المباشر أيضاً، وخصوصاً في ظل ضغط عامل الزمن، كعنصر ضاغط في الأزمة السورية. وبالتالي: إن التأكيد مجدداً على أهمية هذا الدور، وفهمه كما هو، يعتبر من أهم الأولويات السورية، وخصوصاً بعد غياب فعالية الطرف الأمريكي، وانشغاله بترتيب بيته الداخلي، في ظل مترتبات التوازن الدولي الجديد، وصراع القوى ضمن نخبة القرار الأمريكي.
كان وما زال جوهر الموقف الروسي، كما نفهمه، هو كسر ستاتيك حالة الحرب، التي تهيمن على المشهد، ومن الطبيعي، في ظل هكذا رؤية، أن يتم العمل من قبل روسيا على فرز القوى، سواء كانت دوليةً، أو إقليميةً، أو محليةً، من خلال لجم وتكبيل بعضها، وتحييد قوى اخرى، وتجميع ثالثة... خط الفصل في ذلك، هو الموقف من الحل السياسي، والذي على أساسه يتحدد السلوك الروسي كله، و نشاطها الدبلوماسي والسياسي، والعسكري كله.
تمكنت روسيا، من تحييد الدور الأمريكي مؤقتاً، واستطاعت من خلال ذلك احداث اختراق وقف إطلاق النار، والبيان الثلاثي، و تثبيت خيارات الترويكا في اجتماع آستانا الأخير، وذهبت أبعد من ذلك باتجاه تثقيل آستانا، من خلال دعوة قوى المعارضة السورية دون استثناء إلى موسكو، لإطلاعها على ترتيبات ما بعد استانا، في حركة دبلوماسية، تتسم بالذكاء والحكمة، والمرونة، وتعبر عن احترام إرادة السوريين باعتبار أنهم أصحاب القرار النهائي، طبعا ودائماً على أساس الموقف من الإقلاع بالحل السياسي، كمعطى ثابت في الموقف الروسي.
المنطقة الآمنة الأمريكية.. انعدام وزن
من طبيعة أية بنية تمر بمرحلة تراجع، كما هي حال الولايات المتحدة الأمريكية، هي فوضى القرارات، والتخبط، وإذا كانت وقائع الأشهر الفائتة، وخصوصاً منذ التهرب الأمريكي من اتفاق وقف الأعمال العدائية، قدمت الكثير من الأمثلة عن هذا التخبط، فإن قرار الرئيس الأمريكي الجديد، بتكليف إدارته بالتحضير لإقامة منطقة آمنة في سورية، جاء دليلاً جديداً على ذلك، وإن كان ينطوي على مخاطر جدية في محتواه.
أغلب الظن، أنّ قرار ترامب جاء انعكاساً لتوازن القوى ضمن الإدارة الأمريكية، ومحاولة إرضاء قوى الحرب، تحتاجها الإدارة الجديدة، في موقف استعراضي، لا يمتلك أي من مقومات تسويقه، وقبوله، لسبب بسيط وهو: أنه جاء في ظل القرار الاستراتيجي، قرار الأمر الواقع، بحكم العجز: الانكفاء إلى الداخل، وفي جانب أخر، هو تعويض عن حالة انعدام الوزن القائمة، وربما نافذة للعودة الى الملعب السوري، والحفاظ على وزن حلفائها، واستعادة بعض ما فقدوه في ظل الحماقة التي تحكمت بإدارة أوباما.
ربّما لا تكون مفارقة قرار المنطقة الآمنة، كبيرةً بالنسبة للأمريكان، فالبراغماتية الأمريكية، تجيد لعبة التراجع، والالتفاف، إذا استدعت المصالح الأمريكية ذلك، ومن المتوقع أن تتراجع عنها في أية لحظة، ولكن المشكلة هنا في بؤس قوى محلية وإقليمية، قد تبني سياساتها اللاحقة على أساس هذا القرار غير الواقعي... لتحكم هي الأخرى على نفسها، بالخروج من المشهد، بعد سابقة إدارة أوباما.. ؟
نصيحة لافروف
كانت نصيحة لافروف للسوريين يوم أمس، «العمل – العمل – العمل» بمثابة تنبيه وتحذير للقوى الوطنية السورية، بحسم أمرها والإسراع في الذهاب إلى الحلول التوافقية، على أساس القرارات الدولية، وعدم إضاعة المزيد من الوقت، والإقلاع عن التسويف والمماطلة، في ظلِّ وضع دوليِّ مضطرب، لا يخلو من مفاجآت، قد تعرقل ولو مؤقتاً، ما تم إنجازه وما بات خياراً ثابتاً، أي العملية التفاوضية.. فهل سيسمع السوريون؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 795