عزمي بشارة إذ (يتدخل شخصياً)...!
نشر السيد عزمي بشارة في إحدى المجلات العديدة التابعة لـ«المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» الممول قَطرياً، والذي يشغل فيه منصب المدير العام، دراسة حول الفوز الانتخابي لدونالد ترامب كجزء من «موجة يمينيّة» تجتاح العالم، وذلك في عدد شهر تشرين الثاني الماضي لمجلة «سياسات عربية»...
عنوان الدراسة هو: (صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل: حينما تنجب الديمقراطية نقائض الليبرالية)، وإذ يكاد يكون مستحيلاً أن نفنّد في مقال صحفي واحد جملة «الكوارث» الفكرية والسياسية التي نزعم أن الدراسة تعجّ بها، فإننا سنكتفي بالوقوف عند بضع نقاط أساسية.
بداية، وقبل أن نتناول بالنقد بعض الاقتباسات من الدراسة، والتي ليس فيها جديداً تقريباً سوى اسم كاتبها وتاريخ وظروف ومحلّ نشرها، لا بد من القول إنّها بمجملها، ولهذه الأسباب الأخيرة المتعلقة بالاسم وظروف النشر، ولمن يعرف بعض أحوال مؤسسات عزمي «الثقافية»، من داخلها ومن خارجها، إنما تبعث على شيء من البهجة! ذلك أنّ الرجل الذي انكفأ حضوره التلفزيوني والصحفي إلى حد بعيد خلال السنتين الماضيتين، قد ارتأى بنشره دراسته هذه أنّ مستكتَبيه الذين تصدّوا طيلة السنوات الماضية لمهمة الهجوم على روسيا والصين بوصفهما بلدين «إمبرياليين» ومعقلين لـ«الشوفينية الشعبوية القومية»، قد فشلوا في أداء الدور المطلوب منهم، وبات لزاماً على «سيد القوم» أن يتدخل شخصياً.
من ناحية ثانية، فإنّ جملة «الإغلاقات» التي شملت، فيما شملت، ملاحق «العربي الجديد» خلال الفترة الماضية، وتخفيضات في أجور المستكتبين المتبقين أيضاً، وإذ تعكس حقائق سياسية بالدرجة الأولى، لا مالية، فإنها تعكس أيضاً «ضرورات» لا غنى عنها في أنْ يُشمّر المدراء العامّون عن سواعدهم لينزلوا إلى الساحة.
لابد من القول أيضاً، والحق يُقال، أن للغرور فضائله! فأنْ يَقرن عزمي بشارة اسمه (المحروق)، بالطروحات المعادية لروسيا والصين، وتحديداً تلك الطروحات المتلبّسة لبوس اليسار، فتلك خدمة جليلة يقدمها طوعاً واختياراً لليسار الجذري الحقيقي، وذلك عبر اشتراكه العلني في أوركسترا النواح ذاتها، وبالمفردات والأفكار ذاتها، التي يعزفها أصحابه ومُستكتَبوه من اليساريين المتلبرلين المتأمركين المتخليجين.
وعن كون الاسم (محروقاً)، فإنّ المرء لا يحتاج إلى تنقيب طويل في الذاكرة، فالأحداث طازجة بعد؛ السيد عزمي، لمن لم تسعفه ذاكرته، هو ذاته الساكت عن تدخل الناتو في ليبيا وعن «الديمقراطيات الخليجية» ودورها الإقليمي «الديمقراطي»، وهو ذاته المنظّر لإمكانية دمقرطة الإسلام السياسي، ولكون الهدف من الثورات العربية ليس إلا الديمقراطية الغربية بأكثر وصفاتها تخلفاً (الأكثرية والأقلية غير الاقتصاديتين)، والتي باتت محل نقد لاذع من أصحابها بالذات؛ يمكن أن نذكر في هذا السياق مقالات مارتن وولف في الفايننشال تايمز، وكذلك ما قام به كولن كروش من نحت مصطلح (ما بعد الديمقراطية أو Post-democracy) عام 2000، والذي بات موضوعاً لكم هائل من الدراسات. السيد عزمي، هو ذاته الذي هلل لـ(دعم السعودية وتركيا وقطر للشعب السوري بالسلاح)، والذي نظّر لكون (عدم نجاح الثورة السورية مرتبط بعوامل طائفية)، والقائل قبل ذلك بأن (حقيقة دعم قطر وتركيا للمقاومة هي حقيقة يجب الاعتراف بها)...وإلخ.. وإلخ.
عود على بدء، وللدخول إلى مضامين دراسة «المدير العام»، سنختار اقتباسين فقط نعتقد أن تحليلهما كافٍ لتكوين صورة عامة عن الدراسة.
الاقتباس الأول:
«تنْظر العقيدة السائدة في الصين وروسيا، إلى انتشار الديمقراطية بوصفه تمدداً للحضارة الغربية، وأداة لهيمنة الغرب. وهذا يعني باختصار أنّ من يتبنى نظرية صراع الحضارات حالياً على المستوى الدولي، هو هاتان القوتان العظميان، وبخاصة روسيا (..) في الولايات المتحدة تبنّت نظرية صراع الحضارات قوى يمينية قومية محافظة، تؤمن بسياسات القوة في العلاقات الدولية؛ وهي بالضبط القوى التي تؤمن بهذه العقيدة السياسية وتحكم روسيا في المرحلة الراهنة».
انتشار الديمقراطية... أهلاً، أهلاً! لابد أن الرجل لا يقصد التدخلات الديمقراطية الأمريكية والغربية ما بعد الحرب الباردة في الصومال أو يوغوسلافيا أو السودان أو رواندا أو أفغانستان أو العراق أو ليبيا أو غيرها، فليس سطحياً بهذا القدر حين يتحدث عن «انتشار الديمقراطية» بوصفه أمراً واقعاً، بل هو أكثر سطحية من ذلك؛ ففهمه للديمقراطية، كما أسلفنا القول، لا يعدو الأكثرية والأقلية غير الاقتصاديتين، أياً تكن الأكثرية والأقلية، طائفية أو قومية أو عرقية أو جندرية وإلخ. أي أنّ الديمقراطية ضمن فهمه هذا، ليست سوى الوجه الإيجابي للفوضى الخلاقة التي لابد منها للوصول إلى الديمقراطية!
وعليه، فلابد أنّ النظرة الروسية الصينية إلى «الديمقراطية» هي نظرة صحيحة كل الصحة، ولكن ليكون الكلام دقيقاً ومتجرداً، كان ينبغي عليه أن يقول «انتشار الديمقراطية الغربية» لا «انتشار الديمقراطية» فحسب. ولكنّ رغبته، المعلنة والمستترة، في الدفاع عن نشر الديمقراطية الغربية بالذات، وهي الاسم المستعار للفوضى الخلاقة، ولصراع الحضارات أيضاً، هي ما تدفعه لتبنٍ ضمني لنظرية صراع الحضارات التي يهاجمها؛ إذ أنّه يتفق معها في أنّ الديمقراطية ليست منتجاً غربياً فحسب، بل وهي سمة الغرب الفارقة أيضاً! وذلك في مقابل شرق استبدادي وديكتاتوري ومتوحش ومتعصب.
بالعودة إلى الاقتباس، فإنّ ترجمته بناء على التفسير السابق تصبح على الشكل التالي: (إنّ روسيا والصين تقاومان الفوضى الخلاقة الأمريكية المسماة ديمقراطية، وتقاومان ضمناً الهمجية الأمريكية المتذرعة بحقيقة مقدسة، هي: وجوب صراع الحضارات، ولأننا نقف مع المسمى الديمقراطي الغربي وأصحابه، فإننا سننعت أية مقاومة لصراع الحضارات بأنها صراع حضارات، وسنسمي كل مقاوم للديمقراطية الأمريكية دكتاتوراً).
يتضمن الاقتباس أيضاً، مغالطة تاريخية كبرى حين يحصر أنصار نظرية صراع الحضارات ضمن الولايات المتحدة بـ«قوى يمينية قومية محافظة تؤمن بسياسات القوة في العلاقات الدولية»؛ فهل علينا أن نفهم من هذا الكلام أنّ الحزب الديمقراطي في أمريكا، وأن أوباما وهيلاري كلينتون وأضرابهما معادون لصراع الحضارات؟ ومعادون تالياً للفوضى الخلاقة؟ ألم يغد سخيفاً إلى درجة الإسفاف، التمييز بين الديمقراطيين والجمهوريين بناء على تحليلات CNN؟ هل يعتمد «المفكر العربي» في عدّته البحثية على أقوال الآلة الإعلامية الغربية؟
الاقتباس الثاني
«صحيح أنّ الطبقة العاملة في هذه البلدان غاضبة ومحبطة من توسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وازدياد حدّة ظواهر انعدام المساواة، ولكن هذا لا يفسر التصويت لترامب. ويمكن فهم سلوك الطبقة العاملة، أو فئات واسعة من الطبقة العاملة البيضاء في هذه الدول (الغربية) بوصفها ردة فعل على تنامي المساواة، وليس عدم المساواة. فمع توسع الفجوة بين الطبقات والاستقطاب بين الغني والفقير، ازدادت نسبة المساواة للأميركيين من أصل أفريقي والمرأة وغيرها داخل كل طبقة»
نعم! علينا الاعتراف للسيد عزمي بجرأته النظرية؛ فنحن نقف الآن في حضرة صرح نظري لا مجرد مقولة أو فرضية: إنّ ذنب الديمقراطية الأمريكية هو أنّها “مكّنت” المرأة والسود والمهاجرين، وساوتهم بالبيض «الأصليين»، ولو أنها ساوتهم جميعاً في الفقر والبطالة كما يقر الكاتب، ولو أنّ هذه المساواة المفترضة قد بنيت على أرقام وإحصائيات مجتزأة لا تعكس واقع الحال الذي يزخر بلامساواة عنيفة ووحشية، لا بين «فوق» و«تحت» فقط، بل وبين الذين تحت أيضاً، ولكنّ ذلك كلّه غير مهم وغير أساسي، فها هنا يجتهد السيد عزمي، المعادي لروسيا والصين وتبنيهما لنظرية صراع الحضارات، ليوسّع نطاق عمل النظرية نفسها؛ فالمسألة لم تعد بين الدول فحسب، بل داخل كل دولة على حدة، وداخل كل طبقة من الطبقات، وباتت «حرب الجميع ضد الجميع» وإنْ تحت رداء الانتصار للمستضعفين المستعار من جماعة البوست كولونيال الذين ينتهون إلى النتائج نفسها تقريباً.
خلاصة القول هي: أنّ المنظومة التي يحلل من داخلها السيد عزمي، هي ذاتها المنظومة الغربية المتداعية، بل وتحديداً بقسمها الأكثر تخلفاً؛ القسم الأقرب إلى الفاشية الجديدة، والرافض للاعتراف بعمق الأزمة الرأسمالية العالمية، وبعمق التغييرات العالمية الحادثة، والمتعلق بأوهام العودة إلى حقبة السيطرة الأمريكية الأحادية القطبية. واستعارة من مظفر النواب مع بعض التعديل: وما هَمّ ولكنه العُته!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 792