الجيش النظامي والمقاومة الشعبية..
تسليح جميع الرجال البالغين في المجتمع المشاعي القبلي، كان أمرا ضروريا يقتضيه الدفاع عن القبيلة ومن أجل الصيد أيضا، كان السلاح ملكا مشتركا بين جميع أعضاء القبيلة، مع تقسيم العمل ونشوء الحرف تنوع السلاح، أصبح ملكية فردية تعتمد ملكيته على السمات الجسمانية للفرد، القوة السرعة.. لم يكن زعيم العشيرة أو مجلس العشيرة قادرا على فرض أي قرار لا توافق عليه الغالبية المطلقة لأعضاء العشيرة لأن الجميع مسلحون، فالسلاح سلطان ما بعده سلطان، نظم المسلحون بفصائل تعمل ذاتيا دون أوامر تصدر عن سلطة مركزية. سادت في هذه المرحلة الديمقراطية العسكرية.
العاقبة التي لامناص منها لتفسخ الملكية المشاعية الهامدة ونشوء الملكية الخاصة وتشكل الطبقات واختراع الدولة، هو نزع السلاح من أيدي الشعب، لأن السلاح إذا بقي في أيدي العبيد استحالت السيطرة عليهم، وشكلت جيوش من المرتزقة مهمتها قمع تمردات الطبقات الكادحة والشعوب، لكن التاريخ عاقب الطبقات الاستغلالية على نزع السلاح من أيدي الشعب بجعل المرتزقة ينكلون بالطبقات الاستغلالية، بأسيادهم، ينتزعون منهم الحكم والأرض والمال وتحولت الدولة من خادمة للمجتمع إلى سيدة عليه، تاريخنا العربي يقدم أمثلة ساطعة فالمرتزقة الأتراك نكلوا بالخلفاء العباسيين والمماليك نكلوا بالأيوبيين إلى آخره.
عند بدء الدعوة الإسلامية لم تكن الدولة قد نشأت بعد في شبه الجزيرة العربية لأن قبائل الرعي تأخرت زمنا طويلا عن قبائل الزراعة في إقامة دولها لذلك كان السلاح منتشرا داخل القبائل لحمايتها من غزوات القبائل الأخرى والدفاع عن قطعان الماشية من السلب والنهب. الظرف التاريخي حدد الطريق الذي سارت عليه الدعوة الإسلامية، لم يكن بإمكان الرسول محمد (ص) تجاهل دور السلاح المشرع صنعه واستخدامه لا بل التباهي به. أمن السلاح للمسلمين الأوائل إمكانية الدفاع عن النفس ضد العنف الرجعي لسادة قريش. من هنا يمكن فهم وتفسير شرعية العنف الثوري في الإسلام، أما في فلسطين الزراعية فكان النظام العبودي سائدا والدولة قائمة وهي التي نزعت السلاح من أيدي العبيد منذ زمن بعيد، بدأت الدعوة المسيحية والإمبراطورية الرومانية المدججة بالسلاح جاثمة على صدرها، حكم الظرف التاريخي الملموس السيد المسيح عليه السلام وأرغمه على اختيار طريق السلام لنشر المسيحية لتفادي، لتحاشي التصادم مباشرة مع الحكام الرومان، ومع ذلك اضطهدوه ونكلوا به.
الدعوة السلمية كلفت المسيحية مئات الآلاف من الشهداء وثلاثمائة سنة كي يعتنقها قسطنطين الكبير بعد تفريغها من محتواها التحرري، واحتاجت إلى مائة وخمسين سنة أخرى لتحطيم نظام العبودية في روما وتحرير العبيد بعدما اعتنقتها قبائل السلاف والجرمان المسلحة، السلاح الثوري أعاد للمسيحية مضمونها التحرري والإنساني، في حين استطاع المسلمون نشر الإسلام من الأندلس إلى حدود الصين خلال مئة سنة بأقل الخسائر، وخلص الإسلام شعوب بلاد فارس وآسيا الوسطى من الوثنية وتعدد الآلهة ودفع البشرية إلى الإمام بتحطيمه نظام العبودية السائد في بيزنطة وبلاد فارس جوهر المسيحية والإسلام واحد هو التوحيد وتحرير العبيد.
واضح تماما أن البابا بتصريحاته الأخيرة يقرأ التاريخ بانتقائية مغرضة، ثم هل بتحريضه ضد الإسلام كان مخلصا لتعاليم السيد المسيح الداعية للسلام، أم أنه كان يقدم ذريعة سياسية للمحافظين الجدد القابعين في البيت الأبيض لتبرير العنف الرجعي ضد شعوب المنطقة أمام الشعب الأمريكي، ولخلق فتن طائفية في المنطقة العربية والإسلامية، أم أنه يقوم بالدعاية لسياسة المحافظين الجدد المنهارة شعبيتهم على أبواب انتخابات الكونغرس؟؟
ما هكذا تورد الإبل يا نيافة الحبر الأعظم!! لحسم الصراع بين البرجوازية الصاعدة والإقطاعية الرجعية سلحت البرجوازية التقدمية الشعب، ففي كل الثورات البرجوازية كان الشعب مسلحا، العنف الثوري لفصائل الفلاحين المسلحة أمن انتصار البرجوازية على الإقطاع، لكن بعد أن تنتصر وتستلم الحكم تنزع السلاح من الشعب مثلها مثل جميع الطبقات الاستغلالية السابقة، تحت شعار عودة النظام ومنع الفوضى، سادت في التشكيلة الرأسمالية الديموقراطية المدنية.
تطلبت الحروب التحريرية التي خاضتها البرجوازية وفيما بعد الحروب الإمبريالية على المستعمرات جيوشاً ضخمة لم تعرفها البشرية من قبل، تأمين هذا العدد من المرتزقة يحتاج إلى أموال طائلة، لذلك أكرهت على فرض التجنيد الإجباري الذي يعتبر بداية عودة السلاح إلى الشعب، فتدريب الطبقة العاملة والفلاحين على استعمال الأسلحة الحديثة سهل قيام الثورة الاشتراكية، طالب لينين الثوريين تعلم فن الحرب خلال خدمتهم الإجبارية لأن التفاني في سبيل الثورة لا يكفي لنجاحها بل يتطلب المهارة وإتقان استعمال الأسلحة..
كل الانتصارات التي حققتها حركة التحرر العربية في أواسط القرن الماضي يعود إلى نفوذها الكبير داخل الجيوش العربية الذي تحقق بفضل التجنيد الإجباري وتطوع الكادحين في الجيوش العربية..
أدركت الطبقة العاملة والجماهير الشعبية من خلال تجربتها العملية أن الجيش النظامي والشرطة هو أداة للسيطرة الطبقية بيد البرجوازية والملاكين العقاريين لقمع أي تمرد تقوم به الطبقة العاملة والجماهير الكادحة، لذلك أول عمل قامت به كومونة باريس هو حل الجيش الدائم والشرطة، أعلنت أن القوة المسلحة الوحيدة هي الحرس الوطني الذي يتألف من جميع المواطنين القادرين على حمل السلاح، لكن بعد هزيمة الكومونة نزعت البرجوازية السلاح من الشعب مرة أخرى، ونكلت بالكومونيين، تتكرر مطالبة البرجوازية الروسية بنزع السلاح من الشعب، فبعد انتصار ثورة شباط عام 1917 وتربع البرجوازية الروسية على سدة الحكم طالبت بنزع السلاح من الطبقة العاملة والشعب، لكن تطور الثورة لم يسر وفق رغبة البرجوازية، وتفجرت ثورة أكتوبر، انتصرت الثورة بالثبات على المبادئ التي أنضجتها ثورات القرن التاسع عشر.. انتصرت الثورة بقوة سوفيتات العمال والجنود المسلحين.
نتيجة للحرب الأهلية في لبنان تفككت الدولة وغاب دورها الدفاعي الضعيف أصلا بسبب شعار(قوة لبنان في ضعفه)، اجتاحت إسرائيل الجنوب اللبناني عدة مرات وصلت في إحداها إلى بيروت دون مقاومة تذكر، أرغم أهالي الجنوب على حمل السلاح للدفاع عن النفس، نشأ حزب الله بالضرورة كطليعة تنظيمية وسياسية للمقاومين
للاحتلال الإسرائيلي. بعد اتفاق الطائف واقتناع الجميع بضرورة وجود الدولة المركزية القوية بدأ تشكيل الدولة على أسس جديدة في البداية صبت كل جهودها لأعمار الخراب الذي خلفته الحرب الأهلية لذلك بقيت أسلحة الجيش قديمة الأمر الذي حافظ على دور المقاومة الشعبية وشرع وجود السلاح بأيدي المقاومين للدفاع عن أهالي الجنوب، تمكنت المقاومة من طرد المحتلين بتضحياتها اللامحدودة، وقدمت سابقة يحتذى بها، وأقامت الحجة على الحكام العرب الذين استسلموا للشرعية الدولية العاجزة في ظل سيطرة القطب الأوحد الآن أصبح سلاح المقاومة عقبة جدية أمام توقيع اتفاق 17ايار جديد لإقامة الشرق الأوسط الجديد الكبير الذي تروج له الإدارة الأمريكية، الغاية الرئيسية، الجوهريةللحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على لبنان هو تطبيق القرار 1559اي نزع سلاح حزب الله الذي عجزت البرجوازية عن نزعه بالمناورات واللف والدوران.إن البرجوازية اللبنانية القوادة والعاهرة بنفس الوقت مرعوبة ومذعورة من وجود السلاح بأيدي الشعب، تخنع وتذعن لحلف الناتو والجيش الإسرائيلي لحماية سلطتها ومصالحها من الجماهير الشعبية المسلحة، أثبتت التجربة اللبنانية مع إسرائيل والسورية مع الأخوان انه لا يوجد تناقض لا حل له بين الجيش النظامي ووجود مقاومة شعبية، إن المطالبة بنزع سلاح المقاومة في الظروف الحالية التي تمر بها الشعوب العربية والإسلامية هو خيانة وطنية من الدرجة الأولى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 283