ماهر حجار ماهر حجار

أزمة البنى السياسية السورية

سنختلف رأياً مع الكثيرين عندما نقول إن منطقتنا تشهد اليوم أحداثاً تاريخيةً ستترك أثرها على مجمل الوضع في المنطقة، وسيتهمنا الكثيرون بالمبالغة عندما نقول بأن ما يجري اليوم في المنطقة، وما سيجري لاحقاً، سيترك أثره على مجمل الوضع العالمي. هذا الاتهام سوف يصبح إدانة بالفنتازيا السياسية عندما نؤكد: أن ما جرى في لبنان من حرب عدوانية مبيتة عليه، وما حققته المقاومة اللبنانية من انتصار فريد في التاريخ العربي المعاصر،

 ليس سوى الجولة الأولى من الحرب المقررة على المنطقة، وليس سوى اختبار بسيط للقوى، مقارنة مع ما سيجري من استعار شديد لحرب أمريكية صهيونية على المنطقة –وهي عسكرية حصراً- غير محدودة بالقسوة والشدة والاتساع، وما تلك الحرب منا ببعيدة، بل هي أقرب بكثير مما يتصوره المبتدئون في السياسة.
 قبل الدخول في موضوعنا، يبدو أننا بحاجة إلى توضيح ما يهرب الكثيرون من توضيحه على علمهم به، وهو أن هذه الحرب قد حسمت بشكل نهائي تبلور محورين في المنطقة :
الأول: التيار المقاوم: مشَكلاً من المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية وسورية وإيران، مضافاً إليهم كتلة كبيرة مهمشة ومستلبة الإرادة حتى الآن، وهي الشعوب العربية.
والثاني: تيار الشرق الأوسط الجديد: وقوته العسكرية أمريكا وإسرائيل والأنظمة العربية قاطبة وقوى الليبرالية الجديدة و 14 آذار اللبناني والفلسطيني وغيرهم...
بناءً على ما تقدم من قناعة بحتمية قدوم الجولات الجديدة القاسية من الحرب، ومن التبلور الساطع لمحوري مشروع الشرق الأوسط الجديد والمشروع المقاوم له، وباعتبارنا لأنفسنا جزءاً مكوناً وأساسياً من المشروع المقاوم، فإنه يُفترض بنا معرفة ممكناتنا وكوابحها للتحكم بها وضبط مآلات تطور الوضع في المنطقة.
إننا ندعي أن هنالك أزمة حقيقية في البنية السياسية السورية. ولكي لا يفسر كل امرئ كلامنا على هواه، نسارع فنعرف الأزمة بأنها تلك الحالة الحاملة لتناقضات داخلية، متعاكسة ومتساوية بالشدة، محصلتها المؤقتة هي الصفر، الذي لا يلبث حتى يتحول إلى قيمة ايجابية أو سلبية. كما إننا نسارع فنقول أن موضوع هذه الأزمة هو البنى السياسية السورية جمعاء، حكومة... وجبهة ... ومعارضة ... وبين بين ... وكل البنى السياسية بل والشعبية فيها.
وبشكل أكثر تجسيداً فإننا نعني الحكومة السابقة والحالية والقادمة.... النواب السابقين والحاليين واللاحقين.... أعضاء المكاتب السياسية واللجان المركزية السابقين والحاليين واللاحقين... جبهة ومعارضة وبين بين ... إننا نقصد كل من يظن نفسه أنه يعمل بالسياسة ....
إلا من رحم ربه...
ولئن تبدت هذه الأزمة/الاستعصاء في السنوات القليلة الماضية، بين تيارين واضحي المعالم والاتجاهات؛ فإن خطورة الأزمة/الاستعصاء الحالية تمثل خطورة أشد. كونها لا تتعلق بالنوايا غالباً بل ببنية من ينوي. وسيان في النتيجة بين النوايا الحسنة والرديئة إذا كانتا تقومان بالأداء نفسه.
ولئن كنا في هذا المقال غير معنيين بمعالجة اتجاهات المساومة المعلنة بتوجهاتها ونواياها المعروفة، والمدلل عليها بسياساتها، وخاصة الاقتصادية منها؛ فإن ما يذهل المتابع هو اجتماع سوء السياسة مع سوء الأداء، فيصدق المثل العربي القائل «أحَشَفاً وسوء كيلة؟؟ *».
هذا الحشف وسوء الكيل الذي يجد تعبيره الأمثل في: سياسة الحكومة الحالية/الحشف، وسوء الكيل/أداؤها، لا يقتصر على حكومتنا الجليلة فحسب،-والتي أصبح إسقاطها وإسقاط سياساتها ضرورة وطنية- بل يتخطاها إلى مجمل البنى السياسية التقليدية القائمة.
ولكي لا يكون حديثنا مجرداً دعونا نتساءل عن ردود فعل كل –وأؤكد كل- البنى السياسية التقليدية من الخطاب المقاوم الذي قدمه رئيس الجمهورية في مؤتمر اتحاد الصحفيين:

- وزراء يصححون لرئيس الجمهورية!!!!!
- نواب يجدون في الخطاب سيراً في الانعزال، والطيب منهم يجد أن سبب هذا الخطاب هو الضغط الذي تتعرض له الحكومة!! أي أنه ليس خياراً مقاوماً لمشروع الشرق الأوسط الجديد!!!!(يمكن فشة خلق)!!!!؟؟
- حزب جبهة يفكر رئيسه ملياً ثم يستنتج بجلال ووقار شديد وتجهم ضرورة تدقيق التعابير الواردة في الخطاب!!!!!
- حزب جبهة آخر يرى أمينه العام أن الخطاب جيد ولكن السؤال هل نحن قادرون على المواجهة!!!!!
- الأحزاب المسكينة التي تسمي نفسها معارضة تنتظر بفارغ الصبر موعدها المقدس مع التغيير الكبير في 8 تشرين الأول، ليتحول هذا اليوم المقدس إلى رقية منحها إياهم شيخ الطريقة ترقيهم من غائلة المواقف!!!! (المضحك أن 8 تشرين الأول 2006 قد مضى ولم يحدث الزلزال الذي سيجعل السلطة تأتيهم منقادة إليهم تجرجر أذيالها)!!

أما الجماهير الشعبية فلا أظن أن أحداً سوف يجادلنا في ارتياحها وحماسها لكل خطاب مقاوم رغم ما تعانيه من حكومة «الحشف وسوء الكيلة».
لعل الأمر في الحقيقة لا يستقيم والعرض التوصيفي السريع الذي قدمنا... لعل الأمر بحاجة إلى إعادته إلى أصله فندرك كنهه وممكناته؟؟
أكاد أعتقد أن الأصل فيما رأيناه وتبدى لنا في النتائج، هو حالة الجدب والقحط التي لازمت الحياة السياسية في العقود الأخيرة .... تلك الحالة التي لم تسمح بخلق سياسيين قادرين على إدراك الواقع السياسي والتحكم به لأهداف محددة!!!.
بل لعل الأصل في الأمر يتوضح عندما نجد أن هذه القوى والبنى السياسية تحوي عجزها في داخلها ... إنه العجز الناتج عن مشكلة معرفية لديها بالأساس، نستطيع توصيفها من خلال دراسة آلية تشكلها .. فنجد أن الآلية التي شكلتها هي آلية (الفهلوة)...
ادعت تمثيل مصالح الجماهير ولم تكن تمثل إلا مصالحها الشخصية الضيقة فلم تفرزها أية طبقة فكانت هجينة غير أصيلة ... استخدمت (الفهلوة) في فكرها، و(الفهلوة) في سياستها، و(الفهلوة) في تقديم نفسها على أنها هي النخبة السياسية، و(الفهلوة) في بناء ثرواتها....
والآن .. عندما تواجهها مشكلة أن يبقى هذا الوطن أو لا يبقى؛ فإنها تعالج هذه القضية بـ (فهلويتها) المعتادة لتضحك على الأنظمة العربية برأب الصدع العربي، ولتضحك على الأمريكان بسحب الأوروبيين والأنظمة العربية منهم، ولتضحك على الأوروبيين بالانفتاح الاقتصادي، والشراكة الأوروبية-المتوسطية، والخصخصة، وتقديم الوعود لهم بالامتيازات، ولتضحك على نفسها وعلى شعبها بأن ما جرى من انتصار للمقاومة اللبنانية البطلة قد أبعد الحرب عن سورية، وأن الإسرائيليين لن يجرؤا على تكرار العدوان؟!.
بل إن حكومتنا الحكيمة وسياستها في الإبداع، لا تتوقف عن هذا الحد من الـ (الفهلوة) بل تتخطاها إلى تنظير عجيب غريب عزَّ نظيره حتى في جمهوريات الموز .

فهي:
حكومة الفقراء والأغنياء على السواء!!!!
حكومة الكادحين والرأسماليين!!!!
حكومة الفلاحين وكبار الملاك!!!!
حكومة المستثمِرين والمستثمَرين!!!!
حكومة الناهبين والمنهوبين!!!!
حكومة الاشتراكية والرأسمالية !!!!
حكومة الصداقة مع تشافيز والأخوة مع مبارك وعبدَي الله!!!!
دون أن تدرك حتى الآن أن تشافيز اليوم يواجه كل تكالب العالم الرأسمالي على بلاده ليس بـ (فهلويته)، بل بانحيازه الواضح الصريح إلى فقراء وعمال وفلاحي فنزويلا، وعدائه الواضح لناهبي شعبه من ممثلي الاحتكارات الأجنبية وكبار الملاك!!!!
أما مصيبة (فهلويينا) أنهم لم يدركوا حتى الآن، أنه قد انقضى عهد أنصاف المواقف، وأن مشروع الشرق الأوسط الجديد وما يعنيه من سعي دائب تكرار ما يجري في العراق في كل بلدان المنطقة؛ هو مشروع حياة أو موت للعدو الأمريكي، وكذلك لإسرائيل الصهيونية، وأن هذا المشروع لا يحتاج إلى كبير علم لمعرفة حقيقته، إذ يكفيهم لمعرفته قراءة ما تصرح به الآنسة الجذابة رايس، والعجوز الخرف بيريز، الذي يعرف تماماً ما يريد، وإن كان خرفه لا يسمح له بمعرفة ما تملكه شعوبنا من إرادة المقاومة.
بكل تأكيد، لن تدوم هذه الأزمة/الاستعصاء طويلاً، فالحياة كفيلة بحلها بأسرع مما نتصور.
إنه الحل الكفيل بخلق البنى السياسية الجديدة، الأصيلة، المعبرة حقيقة عن إرادة الشعب الجذرية في مجابهة مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد -والليلكي إن شئتَ- بل والانتصار عليه.
إنها البنى الجديدة المنحازة بوضوح إلى جماهيرها والملتصقة بهم والمعبرة عنهم...
إنها البنى الجديدة التي تنبع سياستها من احتياجات شعبها ووطنها في العيش بكرامة، فتستمد قوتها من قوته، وطاقتها من طاقاته... فتنظمها مُشَكِّلة قوة لا تُقهر...
لأنها القوى الجذرية ....
لأنها القوى الصاعدة وفق منطق التاريخ....
لأنها قوى الحق ....

■ مثل عربي قديم يضرب لمن يَظْلِم من وجهين. والحشف هو التمر الرديء.
وأصل المثل: أن رجلاً اشترى تمراً من آخر، فإذا هو رديء، وناقص الكيل. فقال المشتري (أحَشَفاً وسوء كيلة؟). أنظر مجمع الأمثال للميداني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
283