«العلمانيون الجدد» في خدمة الإستعمار الجديد
يقول البعض أن الإستعمار قد انتهى بعد "الحرب العالمية الثانية"، والحقيقة أن الذي انتهى هو شكل معين للإستعمار، ولا نجد سبباً للجزم بعدم عودته بالشكل السابق أو بأشكال جديدة خاصةً وأن القوة التي سبق أن وقفت بالعمق وراء إنهائه قد إنتهت هي الأخرى بنتيجة "الحرب العالمية الثالثة". نورد هذه الخلاصة لنستذكر أن من أساليب الإستعمار المعروفة إذكاء أشكال العداء والنزاع في البلد-الضحية.
من هنا ضرورة اليقظة تجاه ما يجري ترويجه حالياً من صراعات قد تبدو للبعض نتاجاً مجتمعياً داخلياً صرفاً، لكنها في الحقيقة ليست كذلك في هذه المرحلة التي نشهد بها عودة الإستعمار إلى مشرقنا العربي، بقيادة أمريكية هذه المرة، ودور تابع للمستعمرين القدامى، دور بريطاني في العراق وفرنسي مزمع في سوريا ولبنان، مع دور صهيوني مركزي ثابت.
الإستعماريون (كما الطبيعة ! أو كما هم بطبيعتهم !) يكرهون الفراغ، وفي المنطقة فراغ بعد تراجع حركة التحرر الوطني العربية وبعد غياب الحليف السوفييتي لهذه الحركة، وبدى الكيان الصهيوني عاجزاً وحده عن ملء هذا الفراغ، بل أصبح مستقبل وجوده في خطر بعد أن أخفق في إنهاء قوى الصمود والممانعة العربية، الشعبية منها والرسمية، وبعد أن تعرض لهزيمة مذلة في لبنان أسهمت تداعياتها في إشعال إنتفاضة الأقصى الوطنية الكبرى المازالت متوهجة رغم القمع الدموي بقيادة الإرهابي الصهيوني الأكبر الذي توعد منذ سنوات بإخمادها في مائة يوم فقط.
من هنا، من لبنان وفلسطين، وبعدهما العراق، ظهرت ملامح تيار إسلامي أصيل بعدما كاد الرجعيون الظلاميون ومرتزقة "الأفغان العرب" أن ينجحوا بتشويه صورة الإسلام. ففي الأقطار المذكورة دخل إسلاميون بكل قوة ساحة كفاح هو بالعمق والجوهر وطني الطابع تحرري الغاية، بل يمكن القول أنهم باتوا في الحقيقة يؤدون دوراً عجزت أو أحجمت عن أدائه (لأسباب موضوعية أو ذاتية) بعض قوى حركة التحرر الوطني العربية العلمانية، إنهم بهذا المعنى يملأون "فراغاً" لدور على الساحة يبحث عن بطل، والمتقدم لدور البطولة هو الذي يكسب. لقد برهنت فصائل من الإسلاميين، كحزب الله اللبناني، وحركتي حماس والجهاد في فلسطين المحتلة، وقوى وطنية-إسلامية-شعبية عديدة في صفوف المقاومة العراقية الباسلة مثل "جبهة المقاومة الإسلامية الوطنية" وغيرها، برهنوا جميعاً عن طاقة كفاحية هائلة تمثل رافداً عظيماً لحركة التحرر الوطني العربية في أزمتها الراهنة وليس بديلاً لها كما يتوهم أو يهول البعض.
إنهم يستلهمون في جهادهم (1) قيم العدل والحرية عميقة الجذور في الرسالة الإسلامية الثورية قبل أن يشوبها الدجل والتحريف على يد السلاطين وفقهائهم على مدى القرون، وقد تلقوا وما زالوا الضربة تلو الضربة لكنهم ثابتون على موقفهم عملاً (لا قولاً) بالآية القرآنية الكريمة "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".
ليت الأمر يقتصر على ضربات العدو فحسب، فالمؤلم أكثر تطاول نمط من مدعي العلمانية عليهم. ويبدو أن هؤلاء المتثاقفين الفارغين لا يزعجهم فيما يجري من إحتلال وقتل وإضطهاد إلا بروز دور المجاهدين الإسلاميين في مواجهة ذلك، متمسحين بقشور من العلمانية والحداثة والديمقراطية (وهذه بعض كلماتهم المفضلة التي اختلسوها من معجم الثقافة الوطنية-التقدمية)، ميممين وجوههم دوماً شطر الشمال-الغربي، نحو عواصم الرأسمال المالي الإمبريالي العولمي البربري، مصورينها (أو ربما متصورينها، لدى بعض السذج منهم) على أنها قبلة العلمانية ومهبط الوحي الحداثي الديمقراطي المزعوم. وأكثر ما يستفز هؤلاء ويَبْري أقلامهم المسمومة وألسنتهم الوقحة هو العمليات البطولية التي اصطلح على تسميتها بالإستشهادية، فشهداءها الأبطال هم - في عرف هذه الحفنة - منحرفون ما ضحوا بأنفسهم إلا لخلل فكري أو نفسي لديهم (يصفونه بـ"الكراهية")، وأن دافعهم هو "الكبت" وغرضهم ليس تحرير الوطن بل الوصول العاجل إلى الجنة للتمتع بالحور العين عن طريق قتل الأبرياء (كذا). وكم يُكثر هؤلاء المدعين من استخدام كلمة "التسامح" عند تناول هذه المواضيع، ولربما كان مقصدهم أنه كان على الإستشهادي أو الإستشهادية مسامحة من قتلوا بدم بارد أهله وإخوته وأخواته أو أهلها واخوتها وأخواتها، أو أنه علينا جميعاً (وجماعياً) أن نسامح من اغتصبوا واحتلوا أرضنا ويواصلون قصفنا بأحدث الأسلحة الفتاكة المحرمة دولياً في أبشع مذبحة جماعية مفتوحة في فلسطين والعراق، وأن علينا أن نتوقف عن السعى لإمتلاك وسائل الرد والتوازن بالتقانة الثورية المبدعة العظيمة:
الحزام الناسف وصواريخ القسام والبتار والقدس والناصر ... والمصطفى. هؤلاء، في خضم تحليلاتهم النفسانية المتهافتة، يتناسون (أو يجهلون فعلاً، الحمقى منهم على الأقل) أن أول إستشهادي بطل في تاريخ العرب المعاصر كان الشهيد اللاذقاني الضابط البحري جول جمال عام 1956، وكان مسيحي الديانة لم يعده الإنجيل المقدس بالحور العين، وأنه كان من أوائل الإستشهاديين الأبطال في حرب تحرير لبنان الرفيقة القومية الإجتماعية سناء محيدلي والرفيقة الشيوعية لولا عبود (وهي مسيحية الديانة أيضاً) والرفيقة البعثية الرقّاوية حميدة الطاهر، وهن علمانيات ما خطر ببالهن قط أن يأتي يوم ينسب فيه مدعون للعلمانية تضحياتهن الخالدة إلى الكراهية والتعصب الديني، أو إلى الشبق للحور العين!.
نقول لهؤلاء السدنة الصغار في هيكل الوهم العولمي: أين هي العلمانية في الكيان الصهيوني القائم على الأسطورة ؟ بل أين هي في قبلتكم عاصمة "العالم الحر"، عالم الإيمان برب القتل و... الدولار ؟
يعزف هؤلاء "العلمانيون الجدد" من بني جلدتنا على وتر طالما عزف عليه الإستعمار منذ أن قرر الأخوين دالاس (2) في واشنطن عام 1955 "تعبئة" المشاعر الدينية في مواجهة الإتحاد السوفييتي وحلفائه، سواء في أوروبا "المسيحية" وبالأخص بولندا من جهة، أوفي بلدان الجنوب "المسلمة" ومنها بلاد العرب والأفغان من جهة ثانية، لكن الوتر يُضرب اليوم بالمقلوب، فخلافاً لنهج الأخوين دالاس الذي قام على تسييس وتهييج الحساسية الدينية في وجه القوى الوطنية والتقدمية الحليفة للإتحاد السوفييتي "الكافر"، يقوم نهجهم الجديد في مشرقنا العربي على العكس: حشد الشعار "العلماني"، منزوع الدسم، مفرغاً من المضمون الوطني التحرري الذي رافقه منذ بداية "النهضة العربية" (3)، وتوجيهه ضد الإسلاميين وباستخدام القوى المتأسلمة المشبوهة من مخلفات النهج السابق كفزّاعة لخلط الأوراق ولوصم الإسلام بالإرهاب والتعصب. ولا يخفى أن المستهدف الحقيقي بهذا الوصم هم الإسلاميون المجاهدون بعد أن أخذوا بإحتلال مكانهم اللائق في الجبهة العالمية المناهضة للإستعمار والإستكبار (4) وليس "جهاد" أسامة بن لادن وأضرابه من صنائع الـ CIA النافع لهم. أما الخيط الخفي الجامع بين النهجين القديم والجديد فهو الآية الإستعمارية الشيطانية الكريهة "فرق تسد"، إضرب العلمانيين بالإسلاميين تارة، والإسلاميين بالعلمانيين تارة أخرى، وهكذا دواليك.
نحن الشيوعيين، فينا المتدين بأحد الأديان والطوائف والمذاهب المعروفة في بلادنا، وفينا غير المتدين، لكننا جميعاً علمانيون، قُل بالفطرة .. بالزمرة الدموية .. ناهيك عن الفكر. نحن خصوم مبدئيون لفكرة إقحام الدين في بناء الدولة، والكل يعرف ذلك. لكننا بالمقابل حلفاء مبدئيون لكل تيار ديني، إسلامي أو مسيحي، يرى عدوه في الإمبريالية والصهيونية وأعوانهما، وليس في أبناء وطنه من المتدينين بدين أو مذهب آخر، أو المعتنقين عقيدة علمانية وطنية أو قومية أو تقدمية.
يعتز الشيوعيون أيما إعتزاز بالعلاقة التحالفية الراسخة، السياسية والكفاحية، التي ربطت أسلافهم في فلسطين، وبعضهم يهود الديانة، بالمجاهدين القسّاميين (5) في أحراش يعبد وجنين الذين لم يجدوا حرجاً في طباعة بياناتهم الثورية الموشاة بآي الذكر الحكيم في مطبعة الحزب الشيوعي السرية. ويفخر الشيوعيون السوريون أيما فخر بالصداقة الفكرية والسياسية العميقة التي ربطت حزبهم بعدد من أفاضل رجال الدين الإسلامي والمسيحي وفي مقدمتهم المجاهد الدمشقي الميداني الكبير الشيخ محمد الأشمر (6). أما في الشقيقة مصر فقد تجاوز الأمر حدود الصداقة والتحالف إذ تبوأ الشيخ الأزهري الجليل صفوان أبو الفتح مكاناً قيادياً مرموقاً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري القديم، وفي أربعينات القرن الفارط كانت منظمة الشيوعيين في الأزهر الشريف أقوى منظماتهم قاطبة هي ومنظمتي عمال الورش الحربية في حلوان وعمال نسيج المحلة الكبرى.
العلمانيون الأصلاء، العلمانيون الحق، ونحن منهم بلا إدعاء، يرفضون الهجمة "العلمانوية" المشبوهة على الإسلام ويشدون على أيدي المجاهدين الإسلاميين الحق في فلسطين أرض الرباط وفي لبنان والعراق. نحن معاً في خندق واحد، خندق الحرية والكرامة، خندق القيم الإنسانية العليا التي دعت إليها الأديان ودعت إليها العلمانية الحقة، كلٌ بطريقته.
أيها "العلمانيون الجدد" أخرجوا من دربنا، كفاكم تشويهاً وتهريجاً باسم العلمانية خدمةً للإستعمار الجديد !
■ بشير يوسف
هوامش:
1. الجهاد في صحيح الإسلام هو رد الظلم والعدوان
2. جون فوستر دالاس وزير الخارجية، وآلان دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية
3. لم يخل الأمر من بعض المحسوبين خطأ على أفكار "النهضة العربية" ممن اكتفوا بالدعوة العلمانية غير المتلازمة مع التحرر الوطني والقومي. والحقيقة أن "علمانية" هؤلاء كانت انتهازية سياسية موجهة ضد "الخلافة الإسلامية" المزعومة (ممثلة بالدولة العثمانية) بغرض مضمر هو إحلال الإستعمار الغربي محلها. إنهم بهذا المعنى أسلاف ظاهرة العلمانية الجديدة الحالية.
4. من الزاوية السياسية، يقارب مفهوم "الإستكبار" لدى الإسلاميين المجاهدين مفهوم "الإمبريالية" لدى الشيوعيين، وإن لم يكتسب لديهم- بعد- نفس المضمون الإقتصادي
5. كان بالغ الدلالة على أكثر من صعيد أن يتخذ الإخوة في "حماس" من الشيخ الجبلاوي الشهيد القائد عز الدين القسام رمزاً وقدوة تاريخية لهم
6. أحد قادة الثورة السورية الكبرى والحائز عام 1955 على جائزة لينين، أرفع وسام سوفييتي في حينه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 232