انتقاد أحزاب الجبهة مشروع.. بل مطلوب

تكونت الجبهة الوطنية التقدمية في أوائل السبعينات من أحزاب فاعلة ولها وجود واقعي على الأرض، ومثلت التيارات السياسية الرئيسية التي استطاعت أن تجد فيما بينها قواسم مشتركة جوهرها العداء للإمبريالية والصهيونية.

 

لسنا اليوم بصدد تقييم مفصل لمسيرة هذا التحالف بين أحزاب وطنية وتقدمية، ولكن الواضح الذي لا خلاف حوله أن هذه الجبهة قد لعبت دوراً هاماً في تاريخ سورية الحديث، ومن الطبيعي أن يكون لعمل بهذا الحجم نقاط قوة ونقاط ضعف، وأن يكون لديه إيجابيات وسلبيات، وأن تحتوي تجربته على إنجازات وثغرات.

ولاشك أن هذه التجربة من وجهة النظر التاريخية كانت خطوة متقدمة عما سبقتها من خطوات تحالف وتعاون بين القوى الوطنية والتقدمية، ولاشك أيضاً أن هذا الشكل لا يمكن أن يكون الشكل الأخير والنهائي للتعاون بين الوطنيين الصادقين الذين يعملون في ظروف عالم اليوم الدقيقة والصعبة ضد مخططات أصحاب النظام العالمي الجديد التي تهدف ليس فقط إلى إنهاء الاستقلال الوطني بل حتى إلى إلغاء مفهوم السيادة الوطنية نفسه.

لذلك فإن نقاش هذه التجربة الغنية وانتقاد بعض جوانبها هو السبيل الوحيد لتجاوز سلبياتها والارتقاء بها إلى حالة نوعية جديدة تتوافق مع متطلبات التطوير والتحديث التي تجابهها بلادنا على مختلف الصعد.

من هنا يمكن القول أن ما كل انتقاد للجبهة هو دعوة مشبوهة، بل أن مجابهة كل انتقاد بالسيف والترس يؤدي خدمة سيئة جداً لها ويصب الماء في نهاية المطاف في طاحونة أولئك الذين لا يريدون أي خير لبلادنا.

ولذلك يصبح مشروعاً السؤال الذي يطرح بأشكال مختلفة حول فاعلية أكثرية أحزاب الجبهة في المجتمع وأسباب تراجع دورها السياسي والاجتماعي عمّا كان عليه في أوائل السبعينات.

هناك أسباب كثيرة للحال التي وصلت إليها أكثرية أحزاب الجبهة بما فيها الشيوعية فمنها الموضوعي ومنها الذاتي ومنها العام ومنها الخاص ومنها الأساسي ومنها الثانوي.

ولكننا سنتناول الآن أهم الأسباب الذاتية المرتبط ظهورها بالعمل الجبهوي نفسه أي ما يمكن أن يطلق عليه اسم أمراض العمل الجبهوي:

1ـ إن قوة أي حزب سياسي مرتبطة بعمله بين أوساط الجماهير وبمقدار تعبيره عن مصالحها المباشرة وغير المباشرة، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بالعمل الدؤوب المستمر «تحت» بين أوساط الجماهير نفسها لمعرفة نبضها ومطالبها وصياغتها والدفاع عنها، ولكن الذي حدث أن مركز الثقل في العمل لمعرفة مطالب الناس والدفاع عنها انتقل بالتدريج من «تحت» إلى «فوق»، وهذا ما وفرته المواقع التي حصلت عليها هذه الأحزاب في مؤسسات الدولة من مجلس وزراء إلى مجلس شعب إلى إدارات محلية الخ... وإذا كان التواجد في هذه المواقع ليس بالأمر السيئ بحد ذاته ولكنه حمل في طياته خطراً اتضح مع الأيام وهو الاكتفاء بالعمل من «فوق» مما سهل الابتعاد عن العمل «تحت» وصولاً إلى فقدان القدرة على معرفة مطالب الكادحين وحشدها من أجل الدفاع عنها.

فعوضاً عن أن تستخدم هذه الأحزاب تجربتها التاريخية وأن تقوم بتطويرها في الاحتكاك بالجماهير مضيفة إليها الأقنية التي توفرت لها «فوق»، استسهلت العمل الفوقي المريح وابتعدت بالتدريج عن جماهيرها نفسها إلى أن أصبحت بعد فترة مغتربة عن الجماهير وعن الواقع نفسه.

2ـ طبيعي أن تنشأ في الأحزاب تباينات في الآراء وأن يؤدي ذلك إلى نقاش وهذا الوضع بحد ذاته هو محرك للتطور، والضابط له يجب أن يكون الأنظمة الداخلية لهذه الأحزاب وتقاليدها التي تكونت تاريخياً، وطبيعي أن يؤدي القمع غير الديمقراطي للرأي الآخر في أي حزب إلى نشوء حالة من الهلهلة التنظيمية التي تؤدي إلى ابتعاد الكوادر والمناضلين عن أحزابهم لصعوبة إمكانية التعبير العادي عن آرائهم داخل أحزابهم، وبالتالي تفقد هذه الأحزاب بالتدريج قوة الجذب التي كانت تتمتع بها بين الأوساط الطليعية في المجتمع ولكن الأسوأ في الأمر أن بعض القيادات تلجأ إلى مواقعها الجبهوية القيادية مستخدمة هيبة الجبهة ككل كي تستقوي على كوادرها وقواعدها في محاولات مستميتة لقمع أي انتقاد يوجه لها عبر المؤسسات الحزبية وصولاً إلى محاولات اختلاق حالة استعداء مصطنع للجبهة وللنظام ضد الكوادر والقواعد «المتمردة».

وهكذا تتحول هذه القيادات في نهاية المطاف إلى ممثلة للجبهة في الحزب وإلى ممثلة لشخصها ومحيط مؤيديها الضيق في الجبهة.

3ـ لقد أدت الامتيازات التي حصلت عليها بعض القيادات الجبهوية على مر السنين إلى نشوء شريحة من المستفيدين داخل هذه الأحزاب أصبح همها الرئيسي التسابق على المراكز القيادية الحزبية لا من أجل خدمة الجماهير والتضحية في سبيلها، كما كان عليه الحال سابقاً، بل من أجل الوصول إلى كرسي الوزارة ومجلس الشعب والخ... مع ما يوفره ذلك من امتيازات معنوية ومادية. وهذا المرض ليس بجديد وهو معروف وقد استطاعت الأحزاب التقدمية في أنحاء مختلفة من العالم أن تصوغ الضوابط والكوابح التي تمنع فساد وإفساد الكوادر الحزبية، ولكن مع الأسف لم يتم استخدام تجربة الآخرين في هذا المجال مما خلق أرضية خصبة لتشويه الصراعات الحزبية الداخلية وحرفها عن مسارها الذي يجب أن يؤدي إلى تقوية الأحزاب لا إلى إضعافها.

 

ن البلاد بحاجة إلى أحزاب سياسية وطنية قوية، وليست ضعيفة، متماسكة وليست مهلهلة، متطورة وليست متخشبة، وفي ذلك كل الضمانة للتطور اللاحق على طريق مواجهة المخططات الإمبريالية والصهيونية التي تستهدف وحدتنا الوطنية لذلك فإن الانتقاد البناء لأحزاب الجبهة مشروع بل مطلوب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
153